رواية قدر ومكتوب
أدب الجماهير
الإبداع طريق التقدم
كتاب أدبي يشرف عليه:
فؤاد حجازي
المراسلات :
المنصورة – ش. د. سيد أبو العينين-عمارة الفردوس.
جوار مدرسة الشيخ حسنين.
الرمز البريدي 35111
ت : 2247168 / 050
لوحة الغلاف للفنان : أحمد عبد الكريم
فهرسة أثناء النشر
إعداد الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية
إدارة الشئون الفنية
سلسلة أدب الجماهير
خيرت ، حماد
قدر ومكتوب / قصص
محمد خيرت حماد
الطبعة الأولى/ المنصورة
دار الإسلام للطباعة والنشر ، 2007
81 ص ، 19 سم
ترقيم دولى : 977-374-267-9
رقم الإيداع : 3781/ 2007
1-القصص العربية القصيرة
أ- العنوان
813.01
إهداء ..
إليــــــــــــك أينمـــــــــا كنــــــــت .. لا تصنعــــــــي
مــــــن الظـــــــــروف قيــــداً .. فالحياة لا تحتمل
قيــــــــداً جديــــــــــــــداً .. وانفضي عن كاهلك
ما يعوق طريقك إلى غدٍ باسم مشرق بالأمل ،
فالحياة أجمل عندما يوجد الأمل ، وانظري
أمامك دائما ، ففي نهاية كل نفق مظلم ..
شمعة على الأقل ، تهدي إلى طريق الخلاص.
محمد خيرت
قدر ومكتوب
إليــــــــــــك أينمـــــــــا كنــــــــت .. لا تصنعــــــــي
مــــــن الظـــــــــروف قيــــداً .. فالحياة لا تحتمل
قيــــــــداً جديــــــــــــــداً .. وانفضي عن كاهلك
ما يعوق طريقك إلى غدٍ باسم مشرق بالأمل ،
فالحياة أجمل عندما يوجد الأمل ، وانظري
أمامك دائما ، ففي نهاية كل نفق مظلم ..
شمعة على الأقل ، تهدي إلى طريق الخلاص.
محمد خيرت
قدر ومكتوب
(1)
الجو .. حار .. خانق
الموكب طويل .. مزدحم .. يتحامل فى سيره على رجلين يتأبطان ذراعيه . لا يدرى على وجه اليقين كيف يسير ؟
كيف يصلب طوله بينهما ؟ أو حتى كيف يتنفس الهواء!!
جفت الدموع فى مقلتيه .. تجمدت أحاسيسه تماما .. لا يعرف على وجه الدقة ما هي أحاسيسه من شدة مابه من أسى .
ابنته الصغرى .. عفاف .. القطعة الكبرى من قلبه .. نبع الحنان الذي أغدقت به عليه .. يسير فى جنازتها ..ومن الذى تسبب فى موتها ؟ .. هو .. أبوها .. الشيخ الأزهري .. الحاصل على العالمية ؟! هو الذى قتلها .
نعم .. أنا الذى قتلتها .. بصمتي .. بعجزى على أن أقول لا .. لن تتزوجى من أخيك !!
وهل كان باستطاعتي أن أقولها ؟! هل كان بمقدورى أن أعترف بذنبي بعد خمس وعشرين سنة .. سترني الله خلالها !! وهل كان بمقدور أي إنسان غيرى .. لو كان مكاني .. أن يفعلها ويقول لا ؟! يالها من كلمة سهلة على اللسان ثقيلة المعني .. لا واحدة كانت كافية لانهاء ما أنا فيه لكن لم يكن بمقدورى أن أقولها . لأنها كانت ستفتح أبواب الجحيم علىَّ !! لماذا ؟! وما السبب ؟! وغيرها من الأسئلة وساعتها لم أكن لأقدر على الإجابة على أى سؤال منها .
لم يكن بقادر على رفع عينيه عن الأرض .. وكيف يرفعها بعد ما فعل ؟! .. كيف يرفع رأسه وقد حكم على نفسه بأن يحنيها للريح لكي تمر ؟! ولم تمر الريح إلا وقد اقتلعت منه قلبه .
(2)
منذ تزوج جارهم الحاج شعبان من ست الدار .. وحياته فى جحيم قبل أن يتحابا .. وبعد أن تحابا .
فقد كان يعرفها قبل أن تتزوج .. وكم تمناها زوجة له . لكن جمالها كان يباعد بينها وبينه .. فقد كان لا يقدر على مهرها الذى قدره أهلها البسطاء . كما أنه كان فى مرحلة التعليم الثانوي الأزهرى . ولم يخطر على باله أن يطلب من أهله الزواج وهو مازال أمامه الكثير فقد كانت أحلامه كبيرة فى نيل الشهادة " العالمية " كما كان يسميها أبناء جيله . حقا .. الدار بالدار مع زوجها . لكن عريسها ورث عن أبيه عشرة أفدنة وداراً كبيرة ومالاً وفيراً وخمس رؤوس ماشية وحده . لأن أباه لم ينجب سواه . وهو الثاني بين خمسة أخوة صبيان وثلاث بنات .
وحده الذى رغب فى التعليم وسار فى دربه .
عندما عرف برغبة الحاج شعبان بالزواج منها .. قنع فى داخله بالإحساس بوجودها بالقرب منه .. احتراماً للجيرة .. ورضى بذلك نفسا .. إلا أنه ما أن رآها على سطح دارها أول مرة . والسطحان متجاوران .. لا يفصل بينهما فاصل .. حيث كان يعيش بمفرده فى حجرة مقامة على سطح بيتهم .. ليتمكن من المذاكرة وحده دون ازعاج . ما إن رآها فى أيامها الأولى وهي ترتدي ثوباً خفيفا .. وقد تركت شعرها الأسود الفاحم ينساب على جانبى وجهها القمرى .. حتى تمرد بداخله ما كان ساكنا .. وثار المارد فى القمقم . وألهبت نار الرغبة الجامحة رأسه .
وبمرور الأيام .. وكثرة تواجدها على السطح .. الموجود به بشكل دائم وخاصة أمام حجرته للمذاكرة فى نصف النهار بعد توقف الدراسة بالمعهد تأهبا للامتحانات بدأ كل منهما فى التعود على وجود الآخر . وشيئا فشيئا أخذا يتبادلان النظرات والسلامات والتحيات .
ومضى على ذلك ما يقرب من العام . كان خلاله قد حصل على الثانوية والتحق بالجامعة الأزهرية بالقاهرة . وعندما أعد نفسه للسفر .. منى نفسه بأن يحادثها .. يودعها..تعمد مراقبتها حتى وجدها عصر يوم بالقرب من سطحهم، واقترب منها محاذرا أن يراه أحد من الجيران .. وألقى عليها تحية المساء .. بصوت خافت . وأخبرها أنه مسافر للقاهرة ويتمني أن تطلب منه أي شئ يحضره لها عند حضوره في إجازة نصف العام . أخذت تتحدث معه وتوصيه بأن يأخذ باله من نفسه ويذاكر جيداً ويحرص على صحته.
- وخذ بالك من بنات مصر وستاتها .
أُخذ من عبارتها هذه .. صمت لحظات . هب فيه المارد داخله .. أن اهتبل الفرصة .
-هما بنات مصر .. ييجوا حاجه .. بجانبك .
- ايه .. يا شيخ سالم .
- دا جمالك ده .. لو أتوزع على مصر كلها .. يغرقها ويفيض منه كمان . انتشت من كلماته .. وسعدت بها .. أسبلت عينيها حياءً ودلالاً .. فبدت أكثر جمالاً واشراقا وارتسمت على شفتيها ابتسامة ساحرة . واهتبل الفرصة .
نفسى تطلبى مني حاجه .. أجيبها لك تعبر عن تقديرى واعجابى . بعد صمت لحظات أجابت :
-ترجع لى بالسلامة . وأخذت فى الانصراف وهي تقول:
-أشوفك بخير .. الدنيا .. ليلت .. وكمان حد يشوفنا .
-أشوفك بخير ..وأتمني أشوفك صباح باكر قبل سفرى .
-ها تسافر أمتي .
-بعد الظهر .
-إن شاء الله هاجي أسلم عليك .
طار .. امتلأ سعادة .. لم يقدر على كتم ما اعتمر داخله . تسامي .. تبخر فى الهواء .. كان يقفز على السلم هابطاً حتى كان على الأرض فى قفزتين .. أفزعتا أفراد الأسرة المتواجدين فى وسط الدار عندما وجدوه أمامهم فجأة . وفسر لهم ذلك بأنه كاد أن يقع .
(3)
عندما عاد فى إجازة منتصف عامه الجامعي الأول .. أحضر لها زجاجة عطر من الحسين أخفاها بحجرته حتى لا يراها أحد من أسرته . وترقبها عصر يوم حضوره على السطح ..حتى إذا رآها .. أقبلا على بعضهما يسلمان .
أمسك بيدها طويلا في يده .. وأخذ يتأمل جمال وجهها .. وهو يرنو إليها مأخوذا ..حتى إذا أفاق قال :
- وحشتيني قوى .
-أنت أكتر .
-احضرت لك زجاجة عطر من الحسين ، بعد لحظات تفكير :
-أنت سهران شوية الليلة . والا جاي تعبان .
-لا .. سهران .
-خلاص . بعد العشاء بشوية كده أما الناس تنام هاجي أخذها منك .. سيب الباب موارب حتى لا اضطر إلى الخبط عليك .
-فى انتظارك للفجر .
وسحبت يدها من كفه .. وانسلت إلى أسفل بيتها . وقف لحظات غير مصدق لما سمعه .
(4)
عندما دخلت عليه الحجرة . وجدته راقداً على السرير محملقا فى السقف .. متأهبا ومترقبا لحضورها . وثب واقفاًً وأغلق الباب خلفها .. خفف من ضوء اللمبة كعادته عندما يكون نائماً .. فعل ذلك وهو يتحرك كالمذهول .. المسحور .. الحالم .. كل ذلك فى شخص واحد .. ثم وقف قبالتها.. إلتقت عيونهما .. نظر إليها يتأملها .. ترتدي قميص نوم شفاف يبين منه أكثر مما يستر .
عندما رأي جسدها لأول مرة .. تصور أن فنانا بارعا أتقن صنعه .. صدر ناهد ..ممتلئ ..نابض .. زاعق بكل معاني الرغبة فى الارتواء .. وسط كقناة ضيقة تؤدي إلى ردفين ممتلئين ينسحب منهما ساقان مصبوبان .. ملفوفتان واعدتان بمتعة حقيقية عند الارتواء . وقفا لحظات كل منهما يتأمل الآخر .. يفصل بينهما خطوة .. ثم فجأة ودون ترتيب مسبق فتح كل منهما ذراعيه للآخر .. ليرتمى كل منهما فى حضن صاحبه ..ونهلا من شبابهما ماروى شوق كل منهما للمتعة الحقيقية .. ونسيا نفسيهما تماما .. وحدثته خلال لحظات الراحة عن حياتها مع زوجها الذى لم تحس معه بالشبع منذ تزوجا وأفضت له بعجزه عن الإنجاب منها . وحكي لها عن حياته فى القاهرة وكيف كانت فى قلبه ووجدانه دائما.. حتى أفاقا على أذان الفجر يأتي إلى مسامعهما من المسجد القريب .. فأسرعت إلى بيتها خشية استيقاظ زوجها واعدة اياه بتكرار ليالى الارتواء ..وهب إلى المسجد بتلقائية اعتاد عليها عند سماع كل أذان ..حاملا معه منشفة ليستحم ويصلى . وهو عائد بعد الصلاة .. وقد أخذت خيوط النهار تكسى وجه الكون وترحل عنه خيوط الليل السوداء .. بدأت .. أثار النشوة ترحل عن وجدانه ويصفو ذهنه رويدا رويدا .. ماذا فعلت ؟! وكيف انسقت إلى ذلك دون أي مقاومة ؟! وأنا الأزهرى حافظ القرآن بين صدرى وعقلى ؟! لم ينم يومها حتى فرغ من صلاة العصر .. عندما وضع رأسه على الوسادة وطنين الأسئلة التى تبحث عن إجابة يطرد النوم من أجفانه .. أفاق على صوت المؤذن لصلاة المغرب مذعوراً ..
وهو يغادر حجرته .. رنا إلى سطح منزلها .. ولم يرها .. ولم يعرف هل صعدت عصراً لرؤيته كالعادة أم لا ..
واستلقى على الفراش منتظراً إياها بعد العشاء .. ولم تحضر ليلتها وفى اليوم التالى .. فتح باب الحجرة وهو يستذكر دروسه .. حتى يرى سطح منزلها جيدا مترقبا إياها . وقبل المغرب بقليل .. صعدت إليه .. واشارت بيدها اشارة خفيفة غير ملحوظة . مرسلة إليه السلام .. وابتسمت ابتسامة واعدة ..وأومأت ايماءة بسيطة تعني أنها ستحضر له الليلة .. فأخذ يحصى الثواني والدقائق حتى دخلت عليه من الباب بين يديها آنية من أواني الطعام . وترتدي قميصا أكثر إغراءً من السابق . وجلست وسط الحجرة على الحصيرة التى تتوسطها وتربعت ونادته بدلال :
تعال يا خويا رم عظمك .. أنت تعبان فى المذاكرة .
وضحكت بإغراء ، وأكملت :
- وتعبينك معانا .
وكشفت عن فرخة محمرة .. وجوز حمام محشى .. وأخذت تقطع اللحم وتلقمه .
- الله .. وانت ما بتكليش ليه .
- أنا اتعشيت يا خويا معاه .. وحركت شفتيها فى امتعاض.
- ما كنت له أبدا .. وما كان لك.
- النصيب .. هنعمل إيه للنصيب يا خويا .. ثم يعني ما أحنا أهوه لك أكثر منه ..
- ايه أكتر منه ازاي .
- يا خويا .. الليلة السابقة .. شبعت منك أكتر من سنتين جواز عشتهم معاه .
حتى إذا فرغا من طعامهما .. بدآ فى نوع آخر من الإشباع .
(5)
فى آخر ليلة.. من عطلة نصف العام .. عندما حضرت ومعها العشاء كما عودته .. وبعد أن فرغا من تناوله ..مدت يدها فى صدرها وأخرجت له كبشة من الأوراق النقدية ..وضعتها فى جيب جلبابه الذى عند صدره ..وهي تقول:
-كل يا خويا فى الغربة ..وما تحرمش نفسك من حاجه وانا من ناحيتي مش هابخل عليك بأي حاجه .. عايزاك ترجع ناجح .. وكمان مالى هدومك كده مش هافتان وخاسس ذى المره دي .
- تعطيني فلوس ؟! .. كمان ؟!
- إذا كنت بعطيك نفسى ..هابخل عليك بأي حاجة أملكها . أنت كل دنيتي والخير كتير والحمد لله .. فيها إيه أما ينوبك منه جانب .
أعطاها ليلتها كما لم يعطها من قبل .. وارتوى حنينا يكفيه فترة غربته القادمة .
وغادرها تاركاً معها كل جوارحه .. فقد ملكت منه كل شئ حتى أصبح يفتقدها عندما تغيب عنه . بشكل لم يشعر به من قبل .. أصبحت كما لو كانت دمه الذى يجرى فى عروقه .. ينسحب منه عندما تغيب عنه .. ويجرى فى جسده فتجرى فيه الحياة عندما يراها . وعمل بوصيتها طوال غربته .. ذاكر جيدا وأكل جيدا وعاد لها ناجحا .. ممتلئ الجسم..نابضا بالشباب والحيوية .. يملأ العين .. ولشد ما كانت دهشته .. عندما أقدمت عليه أول ليله .. ولاحظ امتلاء بطنها بعض الشئ .. لدرجة لم تخف عنه أول ما وقعت عليها عيناه .
-ايه ده ووضع يده على بطنها . ابتست فى حبور ودلال .
-ابننا .
-ابننا ؟! وقد فغر فاه .
-أيوه يا خويا.. ابننا .. أمال يعني هايكون ابن الجيران.
-أهكذا .. وبكل بساطة تقولينها .. ازاي يا ست الدار سمحت لنفسك تحبلى .
-وفيها ايه ياخويا .. الراجل نفسه فى ولد وفرح قوي .. فاكر أنه ابنه .
-يادي المصيبة .
ضربت بيدها على صدرها ..
-مصيبة ايه يا سالم .. بعد الشر ياخويا
- يا ست الدار ده الشر نفسه .. ازاي تحبلى مني .. وتخلى جوزك يربى ابن مش ابنه .
-هو يعني عرف يجيب زيه ياخويا .. اسكت .. اسكت ده فرح بالحمل قوى .
-فاكره من صلبه .. وصمت شارداً .. تمدد على الفراش .. جلست بجواره مدت يدها تدعك بها صدره .. تناوشه ..ظل فى شروده وصمته .
كيف حدث ذلك .. لماذا لم أحتط لهذا الموقف .. أيكون لى ابن زنا .. من صلبى أنا ويتكفل به رجل غيرى .. يرعاه ويتربى فى عزه ..ويقول له يا أبى .. وأحرم أنا من ذلك . كيف أواجه به ربى .. والناس .
آخرتك سوده يا سالم .. ثم ما هو الموقف لو خرج الواد للدنيا وكان شبيها بى ماذا سيقول الناس ..وماذا سيقول الرجل الذى يربيه .. ألن يشك فى الأمر . آه .. يا سالم .. يا أزهرى .. أنت الذى تفعلها وكيف تعظ الناس فى المسجد وأنت تخطب يوم الجمعة . أتقول لهم لا تزنوا .. وأنت الزاني.. ولك ابن زنا ومن زوجة جارك الذى أوصى النبى الكريم عليه حتى كاد أن يورثه .خسرت أخرتك يا سالم واللى كان كان .
- إزاي بس ياست الدار .. سبتي نفسك تكملى الحمل ..كنتى نزلتيه .. خلصتى منه .
-واخلص منه ازاي وهو منك .. أنت كل حياتي .. راجلى اللى بحبه وعايشه علشانه .
-وزوجك .. أمام الله وأمام الناس .
-أهو ربنا عارف كل حاجه . وهو كان يعني زوج ولا كان زوج ده يا خويا زوج بالاسم بس .. ومن يوم ما لمستني .. مالمسنيش خالص .. مابقدرش اديله نفسى . وهو كمان مافيش فيه . الحق يا خويا هو كويس فى كل حاجه .. ما بيعزش علىَّ حاجه .. لكن فى العملية دي .. مالوش .. مالوش خالص . وأنا مابقدرش .. ما بقدرش أصبر .. يادوب بالعافية بقدر أصبر على بعدك .. والنبى يا خويا ومن نبى النبى لولا اخلاصى لك لكنت كل ليلة فى حضن واحد تاني . عند ذلك صرخ فيها:
-كنت قتلتك بإيدي دي . ومدها أمامها فى عنف . دا أنا أقطع الإيد اللى تتمد ناحيتك .
-طب يا خويا لما أنت بتحبني قوى كده .. وتغيرعلى زعلان كده ليه قوى .
-يا وليه ده حرام هايكون ابن حرام .
-لا .. هايكون ابني وابنك .
لم يعرف كيف ينقل لها ما يدور بداخله . لكن على ما يبدو أنها فكرت فى الأمر بطريقتها ..وأقنعت نفسها بما رأته مناسبا لفهمها وقناعتها الشخصية . لم تتبق لديه الرغبة فيها تلك الليلة بعدما دار بينهما .. وما اعتمل داخله من أفكار وهموم . إلا أنه أمام إلحاحها للارتواء جاوبها لمرة واحدة معللاً ذلك بتعبه من السفر . فغادرته وهي حزينة بعض الشئ . وهي تتوعده فى دلال بأنها لن تترك حقها الليلة القادمة .. وستخلص منه اللى فات .أخذ يتقلب فى فراشه .. كما لو كان يتقلب على جمر النار ..
وأخذت الأفكار السوداء تتوارد على خاطره .. تطن فى رأسه ..تعتمل فى صدره .. حتى ضاق صدره .. سخنت رأسه.. أخذ يضرب بيده على رأسه وهو يصرخ لنفسه ..
لماذا سرت فى هذا الطريق .. وجاوبتها .. ؟؟ لماذا لم أقاوم؟؟ أين كان ضميرى ؟؟ عقلى ؟؟ تركت الشيطان يتملكني ليه ياربى .
لا تلوم إلا نفسك .
أنت الذى كنت ترغب فيها ..وسعيت إليها ..وعليك وحدك الوزر .. لا .. هي اللى شيطانة جابت رجلى .. لو كانت قاومت .. أو حتى قالت لا .. أو حتى تمنعت شوية .. يمكن كان حصل فى الأمور .. أمور .. لكن أهو ده اللى حصل ..واللى كان .. وعليك أن تحدد الآن هل تستمر .. أم تقف عند هذا الحد ..كيف ؟! هل أقدر على ذلك .. وقد أصبحت تملأ على حياتي .. نومي وأحلامي .. ويقظتي دي أصبحت هي اللى بتصرف علىَّ بعد ما الحالة تدهورت مع أبويا .. ويادوب اللى بيبعته ما يكفيش عيش حاف ..كيف سأكمل تعليمي إذا توقفت وابتعدت عنها ؟
عندما سمع أذان الفجر .. خرج للصلاة بتلقائية.. وخشع فى صلاته بقوة.. سائلا الله الهداية وحاول بعدها النوم .. لكن الجفاء بينهما كان شديدا .. وظل يقلب الأمر على جميع الوجوه .. وعندما لم يجد لنفسه مخرجاً فضل أن يترك الأمور على ماهي عليه . وفى المساء أعطاها كما تعود ..ونهل منها ما أشبعه .. ونسى ما كان يقلق عليه مضجعه .. سائلا الله أن يديم عليهما الستر .
وظلا على لقاءاتهما الليلية المعتادة .. كما لو كانا زوجين لا ينغص عليهما أحد . وأخر سفره فى بداية العام الدراسى الثاني له ..حتى كحل عينيه برؤية ابنه وزارته ليلة سفره .. ونفحته ما يكفيه وتمنت له النجاح والعودة لها سالما على ألا يطول بعاده لحرمانها منه طوال مدة الولادة والنفاس .
(6)
بعد عودته للمدينة ..كان هناك اختلاف بينا فى داخله عما كان قبلا . لعله تأنيب الضمير ؟! إحساس بالمسئولية تجاه الوليد ؟!
لم يدر على وجه التحديد ما به ؟! أو ماذا يريد ؟!
هل يستمر فى حبه وهواه الجامح .. الذى جرف كل ما أمامه ؟! أم يعود لنفسه .. ويتوب إلى ربه وينسى ذنبه ؟! .
تارة يجنح به هواه ..وتارة أخرى يعود إلى رشده ويفيق إلى نفسه ويرغب فى التوبة .
ظل هكذا أيامه الأولى نهبا لصراع داخلى . لم يجد فى نفسه المقدرة على حسمه .
إلا أن شعورا داخليا تملكه . بأن حملاً ثقيلاً قد اعتلى كاهله . لدرجة أصبحت مشيته فيها انحناء ظاهر .. وعيناه دائما فى الأرض ..كأنما تبحثان عن مخرج له .
ورويداً .. رويدا وجد نفسه يندمج فى الحياة الجامعية من جديد .. وينهمك فى دراسته ومذاكرته وبين الحين والآخر.. يهفو قلبه إليها .. وإلى وليدها .. أفرغ كل همه فى الدراسة كالمعتاد . وعندما عاد إليها فى عطلة نصف العام الدراسي . لفت نظرها بضرورة الحيطة من الحمل مرة ثانية .. إلا أنها لفتت نظره أنها ترضع أبنها بشكل طبيعي ولا داعي لحملان الهم حيث أن المرأة طوال فترة الرضاعة لا تكون معرضة للحمل .
واستمرت حياتهما معا .. كما لو كانا زوجين سعيدين لا ينغص حياتهما شئ . حتى أنهي دراسته وعاد إلى القرية ليعمل إماما وخطيبا فى مسجدها .. وبعد أن استقرت له الحياة عدة أشهر .. إذ بوالده يفاتحه بضرورة زواجه .. وعندما فاتحها .. فوجئ بها تضرب صدرها بيدها ..
-ايه يا نور عيني .. تتزوج ..أمال احنا إيه .. وأنا .. وابنك .. والعشرة دي كلها تبقى ايه هو ده مش جواز برضه يا خويا والا إيه .
-يا ست الدار .. اهدي وفكرى الراجل عايزني أتجوز أمام الناس ..ويبقى لى زوجة وأولاد أمام ربنا والناس ..
صرخت به ..وهي تبكى وتولول :
-إيه يا سالم اللى أنت بتقوله ده . بعد السنين دي كلها جاي تقوللى اتجوز .. ومين يا أخويا إن شاء الله ؟ هاتلاقى اللى تحبك زيي أنا ؟ وأنا با أحب التراب اللى بتمشى عليه . هاتلاقى زيي أنا فين يا سالم ؟!
-والله .. أن جيتي للحق .. مش هلاقى التراب اللى بتمشى عليه ..لكن الموضوع عايز تفكير هادي ..حتى كمان ما نديش لحد فرصة أنه يشك فى حاجه .. ده أنا باحمد ربنا أن الواد واخد منك أكثر مني .. وطلع شبهك وربنا سترها معانا وأهو الواد بقى عنده خمس سنين وربنا يخليه لينا وأنا برضه يعني ماهو جنبك يعني هاروح فين ما أنا هاكون تحت أمرك برضه . هي العشرة دي تهون علّيه برضه . بس لازم شكلنا أمام الناس يكون سليم . والحمد لله ربنا ساترها معانا لغاية دلوقتي مانجيش احنا بايدينا ندمرها ونخرب على نفسينا . فكرى بهدوء .. وخلى الطابق مستور وياستي والله ما أنا متجوز إلا اللى انت تختاريها لى .. أخذت تنصت إليه مذهولة وعندما وصل إلى هذا الحد فى حديثه أجهشت فى البكاء وأخذت تجرى خارجه من الحجره .
(7)
استكانت .. وسلمت للأمر الواقع .. واختارت له زوجته واتفقت معه على طريقة أخرى للقاء . فطالما ابنهما أصبح له من العمر خمسة أعوام .. طلبت من زوجها أن يعهد إليه بمسئولية تحفيظ الولد القرآن في البيت بالإضافة إلى تعليمه وتأهيله للالتحاق بالمعهد الديني ليشق طريق والده مما أتاح له الدخول والخروج عليها في البيت وفى أي وقت دون إحراج وخاصة أنهم جيران .
ورعي الولد بحماس شديد .. يتابعه فى دروسه ..غمره بكل حنان الأب ..وأسبغ عليه من كل المشاعر التى كان يختزنها بداخله لأمه .. ولابن يأتي له من صلبه . حتى إنه إذا مرض كان هو الذى يأخذه إلى الطبيب .. وفى الإجازات يصطحبه إلى المدينة .. وكان زوجها يعتبر ذلك جميلا كبيراً منه أن يهتم هكذا بوحيده ويرعاه . فكان يزداد حباً له ولا يريد له أن يبتعد عنه .. فكلما وجد نفسه خاليا من العمل .. يرسل له ابنه لإحضاره ليجلسا معا ويأكلا معا كأنه أخ له .. أو أحد أفراد الأسرة ، وعندما أقدم على الزواج قام الرجل .. برد الجميل الذى يراه فى عنقه له .. وكان عونا له فى كل شئ ..واعتبر زوجته الوافدة الجديدة ابنة له ..وكان عش الزوجية.. نفس الحجرة التى فوق السطح .
كما أنها أصبحت صديقة زوجته .. ودام الود واتصل .. واستمرت حياته الزوجية هادئة .. حتى حملت امرأته ووضعت له ولدا .. ثم ابنة وثانية حتى أصبح لديه من الأبناء خمسة .
ومرت الحياة هادئة .. رجل للإثنتين والولد يتقدم فى تعليمه حتى أصبح معيداً فى إحدي الكليات الجامعية . وذات يوم وهو جالس معهم فى بيتهم أخذ زوجها ينتقل من حديث إلى آخر ثم فاجأه بطلب :
-ايه رأيك يا مولانا .. أنا نفسى ومني عيني أجوز أحمد ابني من بنتك سعاد . أنا شايف الواد ميال لها . وانت عارف كل حاجة .. عننا وأنا مش عايز منك حاجه .. البنت دي لله فى الله أنا باحبها وعايزها لابني ..ومش هاعز عليها حاجة.
أسقط فى يدهما . لزما الصمت .. ألجمت المفاجأة لسانه. ماذا يقول للرجل . ووضعت وجهها فى الأرض تخفى مشاعرها .
-ايه ..سكت ليه .. خلاص السكوت علامة الرضا . مد إيدك نقرأ الفاتحة . واختطف الرجل يده وأخذ فى قراءة الفاتحة .
-يا حاج شعبان .. ايه ده اللى انت عملته . ده كلام يا راجل مش حتى أقول لأبويا وأهلى .
-يعني روحت بعيد يا شيخ ..تعالى معايا .. وأخذ بيده وذهبا إلى داره .ونادي على أبيه ثم جلس يعرض عليه الأمر . وفوجئ بأن أبيه يبدي الموافقة ويمد يده للرجل ليقرأ معه الفاتحة .
لم يستطع اعتراضا .وكيف يعترض ؟! الوالد ومستقبله طيب ومبشر .. وهم أهل وجيران ..ماذا يقول للناس معترضا .
تلاقيا ليلا فوق السطوح ..ومضت المقابلة صامتة أغلب الوقت . لم يجد مخرجا .. وعليه اتفقا أن يبديا الموافقة إلى أن يأمر الله بأمره .
وهو يهبط السلالم كاد أن ينكفئ على وجهه . دخل حجرة النوم وأغلق عليه الباب .. تمدد فى فراشه .. يحملق فى سقف الحجرة أحس بجسده يغلى من ارتفاع حرارته . وتوقف عقله تماما .
لم يدر كيف انزلق إلى هذا الموقف ؟! أهي ارادة الله للانتقام منه ؟! ألم يجد هذا الرجل سوى ابنتي أنا ؟! ليت أمره كان قد انكشف وعرف الناس به فى هذه الحالة كان فى مقدوره أن يصرخ به قائلا . لا . وبالفم المليان .
وماذا لو قالها الآن ؟! ويحدث مايحدث .
استكانة غريبة بداخله تدفعه دفعا لقبول الأمر الواقع . وفوران أصاب عقله . أن أرفض وليحدث ما يحدث .
عندما دخلت عليه زوجته . ادعي استغراقه فى النوم .. وعندما تمددت بجواره وتلامس جسداهما شعرت بسخونته الشديدة .
-مالك يا راجل .. جسدك سخن قوى . رد عليها بإعياء.
-أنا حاسس أن أخرتى قربت .
-ايه يا راجل الكلام ده .. يعني دي فرحتك بفاتحة ابنتك
-آه .. فرحتي .. ده أنا فرحان قوى .
(8)
بعد اتمام الزواج .. وجد نفسه زاهداً ..فى كل شئ حوله .. فجأة توقف عن لقاءاتهما معا .. تماما .. جافاه النوم أياما.. وليالٍ شارد الذهن دائما .. لم يدر كيف انساق إلى كل هذا الذى لم يكن فى حسبانه فى يوم من الأيام .
فى البداية مشيت وراء هواك .. وحبك لها لكن أن تزوج ابنتك لأخيها . ضد كل شرع وكل دين .. كيف تقبل هذا؟َ! وأكثر ما كان يؤلمه ويقلق مضجعه أنه لم يكن بقادر على أن يقول لا . أبعد كل هذه السنين يفضح سره مع هذه المرأة ؟! هل يعلن للناس .. يا عالم .. يا هوه أنا الشيخ خريج الأزهر .. إمام وخطيب جامع القرية .. زان وهذا ابني من الزنا ولا يجوز أن أزوجه من ابنتى ؟!
أن تكون فى موقف قادر على الحركة ..والتصرف فيه شئ وأن تكون عاجزاً حتى عن إعلان رأيك شئ مختلف تماما . سجون الدنيا كلها أرحم من هذا السجن . هموم الدنيا تراكمت عليه أطبقت على صدره .. حتى ضاق عن كل ما حوله .. وبكل ما حوله .. دائما منفردا .. وحيدا .. حتى هي .. عندما يراها عيناه فى عينيها ..تزوغان منه .. تذهب إلى بعيد عنه هي التى ما كانت ترفع عينيها عنه طالما كان موجودا حتى فى وجود الأقربين .. لعلها استوعبت المشكلة .. أم لأنها فهمت وأدركت كم يعاني من هذه الزيجة .
وفى يوم بينما هو جالس عندهم .. وحده .. حضرت إليه . وهمست له بأن ابنته حامل ..
كأن جبال الدنيا انهارت فوق رأسه . نظر إليها صامتا غير مصدق :
-بتقولي إيه .. حامل ..إزاي ؟
-أزاي أيه يا راجل .. هي مش امرأة زي أي امرأة مسيرها تحمل وتلد.
-أيوه .. لكن ..
-ايه يا خويا .. ده .. أيوه ..لكن .. لكن ايه يا خويا ..
أراد أن يترك المجلس ويخرج ..إلى أين لا يدرى المهم أن يخرج . هم من جلسته .. إعياء الدنيا كلها نزل عليه .. لم يستطع أن يصلب طوله .
-أقعد يا خويا .. قايم رايح فين .. مالك بعد الشر عليك.
-جوازة العيال قتلتني .. يا ست الدار .
صمتت .. لم تعرف بماذا تجيب ؟! وأدرك من صمتها أنها تدرك ما يعانيه .. تشعر بما يدور بداخله . أرادت أن تهون عليه الأمر ..
-يا خويا أهي غلطة . هو احنا يعني كنا ملايكة ولا كنا ملايكة .. ربنا غفور رحيم .. أنوي الحج السنة دي وتعالى معانا ..
وجد نفسه بتلقائية ..
-والله فكرة .
(9)
بعد عودتهم من الحج بأيام قليلة .. تأهب الجميع لاستقبال الوافد الجديد ..وكلهم أمل وانشراح إلا هو .. حقا قلت رغبته فى الانفراد بنفسه وخفت الكوابيس والأحلام المزعجة .. وازدادت رغبته فى النوم .. وعندما بدأت آلام الوضع تهاجم ابنته..التفت النسوة حولها فى حجرتها .
وتجمع الرجال فى حجرة الجلوس ..وبعد قليل خرجت عليه ست الدار ونادته وزوجها وهمسة لهما .
-الداية بتقول أن الولادة متعسرة ولابد من طلب الإسعاف .
دون تفكير نادي الرجل على أحد الجالسين بالحجرة وطلب منه استدعاء سيارة الاسعاف لنقلها إلى المستشفى .
سحابة كثيفة .. غيوم .. ضباب .. تكدس كل ذلك فى رأسه .. فى عينيه .. لم يعد يدرك ما حوله .. لم يعد يستوعب ما يجرى .. انهار تماما .. جلس صامتا فى مكانه .. لا قدرة له على أي شئ . ينظر حوله مشدوها .
أدرك من حوله .. ما هو فيه .. تركوه وبدأوا التحرك لعمل اللازم وهو وحده بالحجرة . ينتابه إحساس عميق بأن شيئا ما بالغ السوء سوف يقع . أهوال قادمة انتقام سماوي سوف يحل بها وبها .
وما هي إلا سويعات قليلة إلا وسمع صريخا وعويلا .. امتلأت الحجرة حوله بالرجال . وفد أناس كثيرون على الدار .. نساء متشحات بالسواد .. ورجال .. الكل يبكي ويصرخ من بين ذلك كله وصل إلى مسامعه كلمات متفرقات ..
ماتت قبل الوصول إلى المستشفى .. الجنين .. مات .. شكله .. شكل قرد .
(10)
الجنازة.. اقتربت من المقابر الرجال صامتون .. عند المقابر تجمع بعض النسوة وقد اتشحن بالسواد .. يصرخن .
يعتمد فى سيره على الرجلين بجانبيه .. لم تعد قدماه قادرتين على حمله . تمزق من الداخل تماما .. انهار كل ما بداخله . لم يعد ينتسب إلى عالم الأحياء .
وقف به الرجلان بالقرب من المقبرة المفتوحة لابنته .عيناه شاخصتان إليها .. يريد ان يرى زوج ابنته .. ابنه .
خرجت منه كلمات .. اشارات بيديه .. فهم منها من حوله أنه يريده ..
عندما حضر إليه .. وقف قبالته .. جاءت عيناه فى عينيه.
خلص ساعديه من مرافقيه ..احتضن ..ابنه وانهار عليه .. مصابا بأزمة قلبية .
وكان القاتل مجهولا
(1)
بعد أن خرجت الشمس من مكمنها .. بدأت تشق طريقها فى السماء .. وأخذت بأشعتها الوليدة تكابد كتل الضباب فى يوم شتوي معتدل .
امتطى السعيد أبو إبراهيم حماره .. متجها إلى حقله .. المزروع برسيما .. قاصداً إحضار ما يكفى غذاء الدواب لديه عدة أيام .. فالدنيا شتاء .. وصفاء الجو أمر غير مضمون . والمطر يحول غالبا بينه وبين ذلك . فيضطر إلى خلط المتبقى من البرسيم بالمتخلف من أعواد الأرز الجافة (قش الأرز ) إلا أن ذلك يجعل اللبن المحلوب من الماشية غير دسم ولا تخرج منه القشدة بالكمية المناسبة لعمل الزبد التى تعد مصدراً من مصادر دخله بجانب ما يفيض عن حاجة العائلة من الحليب .
عندما وصل إلى رأس الحقل .. رنا ببصره كالمعتاد .. ناحية الترعة الكبيرة . التى تمر أمام أرضه لا يفصلها عنها إلا طريق ضيقة لا تكفى مرور أكثر من العربة التى يقودها الحمار . حيث تعود أن يجد " جمعة الصياد " جالسا.. ماداً غابة سنارته الطويلة .. فألقى عليه السلام زاعقاً حتى يسمعه . إلا أنه لم يسمع من الرجل الرد المعتاد .
فأعاد إلقاء السلام هذه المرة قائلا :
- السلام عليك يا عم جمعة .
فلما لم يصله رد هذه المرة أيضا .. أعاد النظر إلى مكانه قائلا فى نفسه " لعل الرجل أخذته نومة " ونزل من على حماره وعقد خطامه فى أحد الأوتاد التى دقها على رأس الأرض خصيصا لربط المواشى إليها .. واتجه ناحية المكان الذى توقف عنده فى المرة السابقة وبيده ( الشقرف) لحصد ما يقدر الحمار على حمله وهو عائد . إلا أنه ساءل نفسه .
" هو الراجل ده ما ردش السلام ليه . لعله رابط رأسه بحاجة تدفيه من البرد . لكن السنارة ما كانتش مرفوعة زي العادة ليه .. عموما وأنا راجع أروح لعنده وأعرف ايه الحكاية " .
وظل مشغول البال بهذا الأمر حتى انتهي من وضع كل ما جمعه على ظهر الحمار بطريقة تضمن عدم وقوع أي شئ أثناء السير . وأخذ مقود الحمار بيده واتجه إلى الطريق . حتى إذا كان قبالة الصياد .. أوقف الحمار .. وتوجه إلى مكانه حتى إذا اقترب .. ألقى عليه السلام .. فلم يسمع رداً.. ولاحظ أن يدي الرجل حول السناره وغير ممسكتين بها .. وطرفها الأمامي بالماء .. ورأس الرجل ساقطة على صدره ( والتلفيعة ) التى يتلفع بها طرفاها ناحية ظهره ومعقودة بطريقة توحي بأن أحداً كان يشدها على رقبته من الخلف .
صرخ السعيد بالرجل .
- يا عم جمعة . . يا عم جمعة ..
تسمر مكانه لحظات محاولا استيعاب الموقف .
"الراجل ميت ؟! مقتول ؟! ده ده .. يا نهارك الأسود يا سعيد جرى لك ايه يا عم جمعه ؟! ومن يعمل فيك كده ؟! "
اجتاحته نوبة ذعر لم يعرف مثلها من قبل ..
"قتيل.. على راس أرضى .. وأنا أول واحد .. أشوفه لا.. مش أول واحد أشوفه لا .. مش أول واحد .. زمان عدي عليه ناس كتير رايحين جايين لكن مش واخدين بالهم .. اشمعني أنا اللى عملت ناصح .. كان مالك بس يا سعيد .." وهو فى وقفته هذه مر أحد جيرانه فى الحقل .. ألقى عليه السلام . فلم يرد عليه .. ولما لاحظ شرود السعيد ووقفته رافعاً يديه على رأسه " .
- مالك يا سعيد .. فيه إيه .. جمعة الصياد به حاجة. ونزل الرجل عن حماره وأسرع ناحية السعيد .
- جمعة .. باين عليه مقتول .. يا خويا .. الراجل قلت له السلام عليكم ماردش على جيت أشوف ما بيردش علي ليه لقيته بالمنظر ده باين مقتول .. ولا ميت .. أنا مش عارف .
- ربطة التلفيعة ده بتقول أنه مش موتة ربه يا سعيد .. ووقف هو الآخر مشدوها لحظات .. ثم قال :
- سعيد بقولك ايه يا خويا .. احنا لا شوفنا ولاعرفنا بدل ما ندخل فى سين وجيم مع النيابه ويحبسونا على ما الحقيقة تبان .. وموت يا حمار .. ياله يا خويا نروح وكأننا ما عرفناش حاجه .
وبينما هما يتلفتان ناحية الطريق . مر اثنان آخران يركبان مطيتاتهما فلاحظا الموقف فأوقفا دابتيهما ونزلا .
- إيه اللى حصل يا رجالة ؟ .. مالكم واقفين مبلمين كده ليه .. وماله الراجل ؟! ..
وهكذا أسقط فى يد السعيد .. وأخذ الجمع يزداد .
ولم يعد أمامهم مفر من إبلاغ نقطة البوليس بالقرية . وحضرت النيابة والطبيب الشرعي وأخذت التحقيقات مجراها الطبيعى وتم القبض على السعيد الذى أجمع الكل على أنه أول من شاهد القتيل . ووجهت إليه تهمة القتل فى التحقيقات وألقى به فى السجن لحين انتهاء التحريات والتحقيقات ووصول تقرير الطبيب الشرعي .
(2)
بعد أن أنهى جمعة الخدمة العسكرية .. وكان والده قد توفى وهو صغير .. وتركه وحيد أمه .. التى كانت فى ريعان الشباب وأجمل من كثير من بنات القرية . فلم تستطع الصبر بدون رجل وخاصة وأهلها كانوا يلحون عليها كثيراً .. للزواج ..حتى لا يتعرضوا للقيل والقال . وخوفاً من ضياع الفدانين اللذين ورثتهما هي وابنها عن زوجها واختاروا ابن عمها زوجا لها . وخاصة أنه كان يحبها ويرغب فى الزواج منها إلا أنها كانت تميل إلى من تزوجته ولم يطق الزوج أن يعيش معه وتحت سقف بيته هذا الابن الذى يذكره دائما بأبيه الذى فضلته عليه .
فصبر حتى كبر وأنجب بنتين وولدين من زوجته وحتى إذا انتهي من الخدمة العسكرية ولم يعرف بعد ماذا سيفعل فى حياته فجلس أسبوعين فى الدار يدبر أمره .. حتى افتعل الرجل معه مشكلة وادعي لزوجته .
-ابنك ده طالع لأبوه . وبيكرهني .. مش طايق يشوفني قدامه .. وأنا بصراحة كده ما عنتش طايقه كمان فى البيت .
- طب هايروح فين .
- يروح ولا ما يروحش .. أنا ما عنتش عايزه فى الدار وعلى الطلاق منك ماهو بايت فيها كمان .. سمع جمعة الحوار .. فأخذ ملابسه فى حقيبة صغيرة كانت عنده وذهب إلى بيت عمه الوحيد .. وعندما حكى له ما حدث صمت الرجل قليلا .. وقال له :
- يا عني امك ترميك .. وعايزني أنا اللي ألمك وانا عندي بنات على وش جواز . طيب إزاي تقعد فى الدار بالوضع ده .
اسودت الدنيا فى وجهه .. فأخذ حقيبته واتجه ناحية محطة القطار قاصداً السفر من البلدة تاركا إياها لأهلها. وهو واقف فى انتظار القطار يفكر إلى أين يسافر .
تذكر زميله فى الجندية " معاطي " من قرية ليست بعيدة . حيث كان الصديق المخلص له فقرر السفر إليه. وعندما حكي لأهل معاطي حكايته .. طيبوا خاطره .. ولم يمانعوا فى بقائه معهم والعمل بالقرية فى أي شغلانه وربك الرزاق حسب قول والد معاطي . وفى صباح اليوم التالى اصطحبه والد معاطي إلى دوار العمدة .. وشرح له أمره فلم يمانع العمدة من شغله فى الدوار يرعي البهائم ويزرع الأرض مع غيره من الأنفار .
(3)
مرت سنوات على ذلك الرجل .. يعمل ويقيم فى الدوار حتى بلغ مبلغ الرجال .. فاقترح عليه والد صديقه أن يختار إحدي بنات القرية ممن يرضين به ويكمل نصف دينه .. حيث كان معاطي قد أنجب ثلاثة من الأولاد وأصبح واجبا عليه أن يتزوج حتى لا يفوته قطار الزواج واختاروا له واحدة يتيمة الأم والأب تعيش فى كنف زوج أمها الذى أعطاها داراً قديمة من حجرتين بالطوب اللبن فى طرف القرية كان يستخدمها فى تخزين علف الدواب وأي شئ ليس فى حاجة إليه . واستقر بهما الحال .. ولكن لم ينجبا وعاشا حياتهما بعيدا عن المشاكل قانعان بما قسمه الله لهما .. إلى أن حدث يوم واكتشف العمدة وجود سرقة فى خزين القطن .. فجمع الأنفار التى تعمل لديه بالدوار.. وهددهم جميعا إن لم يتقدم السارق من نفسه ويقر بما فعل .. وساعتها سيغفر له ويسامحه ويتركه لحال سبيله وإلا سوف يظل يبحث عنه حتى يعرفه وساعتها لن يتركه إلا فى السجن ورغم أن معظم الأنفار كانت تعرف الفاعل الحقيقى وهو واحد من أهل القرية إلا أنهم أجمعوا أمراً بينهم وذهبوا للعمدة وأبلغوا أن جمعة هو السارق وأنهم شاهدوه وهو يخرج ليلا بسرقته لبيعها . إلا أن الرجل لم يصدق هذه الوشاية وإن كان بحنكة ادعي تصديقه للأمر وأنه أبقى عليه مدعياً أنه يريد أن يمسكه متلبسا . وعندما أدرك جمعة ذلك طلب إعفاءه من العمل لديه لأنه سلم هذه المرة .. وربما مرة قادمة تكون السرقة أكبر ويتهمونه أيضا فتكون المصيبة أشد . فآثر السلامة ووافقه العمدة على مضض .. وتفهمت زوجته ذلك . وعاشا على مايرزقهما به الله من عمل مؤقت يكفى قوتهما .
واحترف جمعة الصيد بالسنارة . فإن طلبه أحد لأي عمل .. ذهب إليه .. وإن لم يكن هناك عمل حمل سنارته وبحث عن رزقه .. واعتاد على مكان معين للصيد فيه عرفه أهل القرية . حتى إذا أراده أحد لشئ ما ذهب إليه فى مكانه .
وفى يوم علمه بوفاة والدته . أصطحبه معاطي وزوجته للعزاء .. وعندما وجد نفوراً من أهله .. واندهاشاً لحضوره .. فسر ذلك بأنهم ربما ظنوا أنه حضر لأخذ ميراثه من أبيه .. وصدق ظنه عندما ترك زوج أمه العزاء وجاء للجلوس بجانبه وقال له هامسا :
-من أولها يابن الناس .. أنا عايز أعرفك أن أمك باعت لى الأرض بيع وشر ا.. وصرفت ثمنها على جواز البنات وعلاجها وهي مريضة .. وأنا باعرفك أهو علشان مش عايزين فضايح ومشاكل .
نظر إليه جمعه .. فى أسى وقال :
-أنا أصلا ما كنتش عايز آجي .. لأن اللى مسألش علىَّ السنين دي بعد ما طردني من بيته ما يستحقش آجى له تاني لولا أن معاطي قال لى دي أمك ولازم تحضر عزاها .. وعلى العموم .. أنا استعوضت ربنا من زمان .. يا جوز أمي .. وترك .. العزاء وغادر القرية إلى حيث أتي .
(4)
شاع بين الناس أن جمعة لديه ميراث من أمه .. وأن زوجها لا يستطيع التصرف فى الأرض إلا بموافقة جمعة .. وأشاعوا أيضا أن زوجته طلبت ميراثاً لها من أمها أيضا .. وأصبح الناس يتهامسون على ما يملكه جمعة من أرض .. بل أراضٍ هنا وهناك .. وأن ذلك ربما يكون السبب وراء مقتله .
وانتشر رجال الشرطة السريين بين أهل القرية .. وفى قريته الأصلية .. يرصدون ما يحدث وما يقال .. ويتحرون عن الحادثة .
أغلقت زوجة جمعة باب دارها على نفسها ..وصمت أذنيها عن كل ما يقال .. فلديها قناعة .. بأن زوجها لم يكن له أعداء .. وأن ما يقال لا يدخل فى قناعتها اطلاقاً . وبعد أيام شاع فى القرية أن السعيد تجدد حبسه .. وأنه المتهم الرئيسى .
وعندما قابلتها جارتها وهي خارجه يوماً لأمر من أمور حياتها وسألتها عن حالها .. وانتقلت بالحديث عن مقتل زوجها . قالت لها :
-جمعة مات موتة ربه .. يا خاله .. مين هايقتله .. وعلشان إيه .
-علشان إيه .. أمال الأرض اللى ورثها عن أمه هاتروح فين.
-أرض إيه يا خاله .. لو كان معانا أرض كان بقى ده حالنا .
ثلاثية – الأم – البنت – الابن
الأم
بعدما تخطت ( سعدية ) الخامسة والعشرين من عمرها.. اعتبرت ان قطار الزواج قد فاتها . وعلى ذلك تسلل الى داخلها إحساس بأنها غير مرغوب فيها كامرأة . بدأ هذا الإحساس يكبر بداخلها مع مرور الأيام حقا أنها أكثر ميلا إلى السمرة . وأن وجهها المستدير يخلو من كل ملامح الجمال. . إلا أن لها جسدا مميزا . . ساقان ملفوفتان.. وردفان معبران . . . ونهدان ممتلئان صارخان بكل أنوثة . هى تدرك ذلك جيدا . . وتفهم تماما نظرات الرجال إلى مؤخرتها وساقيها وخاصة عندما تشمر عنهما ثيابها أثناء العمل فى الحقول . كما أن أمها عبرت لها عن ذلك صراحة . . عندما أخبرتها ذات يوم وهى تساعدها فى الاستحمام .
- عليك جسد ياسعدية . . اللى يعرفه يتاقله بالمال . ومصمصت شفتيها حسرة .
وتدرك سعدية أيضا . . انه لو كان لدى أبيها شىء من المال . . أو قطعتين من الطين ( أرض ) . . لأضفيتا عليها جمالا غير موجود فيها وساعدا الشباب أو واحداً منهم على الأقل على تجاهل فرق الجمال هذا .
ومع الأيام تضخم هذا الإحساس بداخلها حتى انقلب إلى نوع من اللامبالاة . . وعدم الرغبة في الحياة أصلا . أكلت أم لم تأكل . . شربت أم لم تشرب . . عاشت أم ماتت ماهو الفرق ؟.
فمن وجهة نظرها أن المرأة غير المرغوب فيها موتها أفضل .
إلا أن أمها كان لديها اليقين بأنه سيأتي اليوم الذى يتقدم الى ابنتها الرجل الذى قسمه الله لها .
وجاء هذا الرجل . بائع خضر متجول . . يحمل على جانبى حماره ( جنابه ) ممتلئان بالفجل والجرجير . .
وكثيرا ماكان يقف أمام دارهم مناديا على بضاعته فتخرج لتشترى منه ببيضة ربطتى فجل وجرجير . وأحيانا يتبادلان الحديث بشكل عارض .
وفى يوم حدثها عن نفسه . . . أنه يعيش بمفرده ولم يسبق له الزواج في دار من حجرة واحدة ولا يملك إلا ساحلاً (( قطعة ارض على شط الترعة )) صغيرا يزرعه بالخضر ويتعيش من بيعه بالإضافة إلى عمله أجيراً في مواسم الزرع والحصد . وعندما أخبرته انه يبدو كبيرا في السن . . يقترب من الخمسين عاما . أبدى استهانته بذلك موضحا لها أنه من الأفضل لها وله أن يكملا بقية عمريهما معا بدلا من أن يظلا وحيدين . فكرت لحظة . . ثم قالت له :
-وماله ياخويا . . كلم أبويا .
وكان أن تزوجا واصطحبها إلى حجرته وعاش معا يدا بيد فى كل شىء . حقا لم تشعر بالارتواء كما كانت تتوقع أن يكون الارتواء من الرجل . . وذلك لكبر سنه . إلا أنها أقنعت نفسها بأن شيئا . . . أفضل من لاشىء على كل حال .
ومضت بهما الحياة حتى أنجبا بنتا . . أسمياها صبرية وولدا أسمياه حجازي . وبعد ما يقارب السنوات العشر من الزواج رحل زوجها عن الدنيا تاركا لها الولدين بين ثماني سنوات للبنت والسبع للولد .
استمرت بعده تزرع الساحل . . وبدلا من أن تتجول تبيع الخضر . . أحضرت (( تشطا )) ووضعته أمام حجرتها تبيع فيه بضاعتها واعتاد الناس عليها واعتادت على ذلك . وأحيانا كان الأمر يتطلب ان تجلس هكذا لما بعد آذان المغرب صيفا وشتاء .
كان يتصادف أثناء وجودها بالساحل . . أن يكون سليمان صاحب الأرض التي قبالة ساحلهم مباشرة . . يروى الأرض . . أو يبذر السماد فكان ينتهي من عمله ويأتي إليها مساعدا إياها في اقتلاع أشجار الخضر وتجمعيها في ربطات معدة للبيع وبمرور الأيام كان يعود معها سائرين على أقدامهما يوصلها إلى دارها ويكمل طريقه إلى داره التي تبعد عن دارها قليلا . ثم اخذ يتعود على الحضور إليها وهى جالسة تبيع خضارها حتى تنتهي من عملها . ويعود ولديها من لهوهما مع اقرانهما ويتركها ليذهب إلى داره لتناول عشاءه وتنهض هي لإعداد العشاء لها ولولداها ثم بعد ذلك تجلس أمام دارها قليلا . . . وولداها يلعبان أمامها إلى أن يرغبا فى النوم فيأويان إلى حجرتهما .
لا تدرى على وجه التحديد كيف تطورت الأمور بينها وبين سليمان . . حقا إنه متزوج ولكن ليس لديه أولاد . . . ويكبرها بثلاثة أعوام فقط وبدأ الحديث بينهما يأخذ مجرى آخر . . كلمات غزل وشكوى من زوجته وعدم انجابها . . وانه يرى فيها أشياءً لايراها فى زوجته . . وتطورت الامور من كلمات إلى لمسات لأجزاء من جسدها .
حتى تواعدا أن يجيء إليها ليلا فى ليلة شتوية بعد أن نام أولادها وقد تركت الباب مفتوحا حتى لا يحدث صوتا يلفت انتباه الجيران أو يوقظ الأولاد . لم تعرف كيف تتصرف فالفراش عبارة عن مرتبة مفروشة فوق حصير على الأرض . فما كان منه إلا أن فرش الحصير الذي كانوا يتناولون عليه الطعام فى جانب من الحجرة بعيدا عن الولدين . . وناموا فوقه معا .
لم تذق للجنس حلاوة كما ذاقتها ليلتها . . ولم تعرف المعنى الحقيقي لمعاشرة الرجل إلا وهى بين أحضانه فأيقظ بداخلها المارد الذي نام منذ بدأ بداخلها الإحساس بأن قطار الزواج قد غادر محطتها .
وبدأت تشعر بأن لحياتها طعم آخر . . وجرى الدم في وجنتيها وأخذت ملامح وجهها تشرق بشيء من الحياة . حتى بدأت هي التي تطلب من سليمان ان يحضر إليها . وأحيانا كانت تعد له العشاء معها وأولادها ولا تتركه يذهب للعشاء مع زوجته .
وأخذت العلاقة بينهما شكلا ملفتا . حتى بدأت الأقاويل تتناولهما . . وشعرت زوجة سليمان بما على زوجها من تغير ومنعته من الذهاب إليها أو الحديث معها . فامتنع عنها أياماً . لم تصبر على احتمالها . ولم تقدر على كبت رغبتها المتأججة .
واستجابت مع أول محاولة من جار لها كان يرى في نفسه أنه الأولى بحكم الجيرة من سليمان . . حقا إنها لم تشعر معه بما كانت تشعر به من متعة مع سليمان . إلا أنه كان يروى عطشها ويشبع رغبتها .
واستجابت لمحاولات أخرى من الشباب . . حتى أصبح أمرها معروفاً بينهم . . ورفضت بعنف أية محاولة من رجل كبير السن . وعلى ذلك كانت حريصة تماما على عدم افتعال أى مشاكل مع أى من الجارات إلى أن تردد عليها شاب . . عرفت زوجته بأمره . . وكانت تغار عليه فحضرت ومعها أخت لها قبل المغرب بقليل وأمسكتا بها أمام الدار . وأخذتا تضربانها وتصرخان بها وترميانها بأقبح الألفاظ حتى تجمع أهل الحارة كلهم حولها . ومن بين المتجمعين ولداها . ومزقا ثيابها وأظهرا مناطق حساسة من جسدها وتصيحان :
-اللي ما يشترى يتفرج .
وعند ذلك تدخل بعض من الواقفين والواقفات وأنهيا المشاجرة وأدخلاها إلى حجرتها هي وولديها وأغلقا الباب عليها وهى تبكى .
تكورت مسندة ظهرها للحائط . . دافنة رأسها بين ساقيها ..وبجوارها جلست ابنتها على نفس الهيئة تبكيان.. والولد أسند ظهره إلى الحائط المقابل . . سانداً كوعيه على ركبتيه . . محملقا فى سقف الحجرة . . المكون من عروق خشبية مرصوصة بحذاء بعضها ، دون أن يذرف دمعة واحدة .
لم تكن تتصور أن تصل الأمور بها إلى هذا الحد . . كيف ستواجه الجيران فى الصباح ؟! وبأى وجه ؟! والأدهى من ذلك ولداها . . لقد كبرت البنت وتعدت العاشرة . . ولعلها فهمت ما حدث . وابنها الذي تعدى التاسعة . وكيف سيلعب مع أقرانه فى الحارة ؟!
جفت دموعها . . وصحت أفكارها .
يجب أن أتوقف عن ذلك ؟! ولكن هل أحرم نفسي من هذه المتعة ؟ وأعود مرة أخرى إلى أيام الجفاف . . أتقلب في فراشي كالمجنونة.
هداها فكرها ان تكف عن ذلك مع المتزوجين وتكتفي بالشباب غير المتزوج . فلا زوجة تنتظره في الدار وتغير عليه منها . .
ياما الأبواب مدارية . عندما وصلت بفكرها إلى هذا الحد . بدأت تشعر بهدوء نفسها فقامت توقد (( لمبة الجاز)) وتغير ثيابها . . وعندما أحست بالجوع . أعدت (( الطبلية )) وأحضرت عدة أرغفة وقطعة جبن وربطتين من الخضر بعد أن غسلتهما بالماء . وتربعت تتناول طعامها . وبعد أن وضعت أول لقمة فى فمها وقعت عيناها على ابنتها.. فتذكرت ولديها . وأشارت اليهما . . فحضرت البنت . . وجلست بجوارها . أبى الولد . . . وأشاح بوجهه فنادت عليه فلم يجب .
اقتربت منه مرتكزة على يديها وركبتيها . . ثم مدت يدها تربت على كتفيه فإذا به يفاجئها دافعا يدها عنه بعنف ونظر إليها وعيناه تقدحان شررا .
-إيه . . يا بنى . . مالك . .
التفت برأسه للناحية الأخرى . . تجاهلها تماما . ودون أن ينطق بحرف ابتعد عن مكانها . . ومدد جسده على الفراش مبديا رغبته في النوم .
عادت إلى مكانها السابق . . وأكملت عدة لقيمات هي وابنتها . . ثم عادت إلى جلستها السابقة ساندة ظهرها إلى الحائط . . مادة ساقيها للأمام . . وجذبت ابنتها إلى جوارها . . . واحتضنتها إلى صدرها ثم أنامتها على فخديها . وأخذت تعبث بأناملها في شعر رأسها حتى نامتا وهما على هذا الوضع .
بدأت تشعر بمرور الأيام بتمرد ابنها حجازي عليها . لم يعد يحدثها إلا فيما ندر . . ولم تلتقي نظراتهما إلا مرات معدودة . ولكنها لم تقدر هذا التمرد حق قدره . . فقد بدأت علاقاته بأقرانه تأخذ شكلا آخر . . أصبح كثير التشاجرة معهم . . ودائم الاعتداء وكثيرا ما يتجمعون حوله ويضربونه وما كان يغيظها أنه لم يكن يأتي إليها باكياً أبدا . . وكان دائما حريصا على أن يأخذ حقه بيده من كل من يعتدي عليه أو يسبه بأمه . في داخلها كان ذلك أمر يسرها لكن في نفس الوقت لم تكن ترغب في أن يكون ذلك بشكل دائم حتى لا يسمع دائما سب أمه . الذي كان دائما ما يثيره إلى حد الجنون .
وحرصت بينها وبين نفسها أن تكون نزواتها خارج حجرتها . في الحقول القريبة من أطراف القرية . أو في التلال المكونة من مخلفات المواشي حول القرية . . أو على شوية قش الأرز في ((الأجران )) ودائما أثناء الليل والأولاد نيام .
ومرت الأيام . . وما أسرع مرورها . . وبدأت ابنتها تظهر عليها علامات الأنوثة . . وأصبح لها نهدان صغيران وكبر ابنها وبلغ مبلغ الشباب بدأ شاربه ينبت . واقترب في طوله من طولها . وأصبحت تخشاه وخاصة أنه مازال على عهده معها . متجنبا إياها إلا انه بدأ يسائلها . . عندما تغيب أو تتأخر في قضاء حاجة . . وأخذ يقوم هو برعاية الساحل وإحضار الخضر وبيعه وكان يصر عندما يستأجرهم احد إن يكونوا جميعا معا . . حتى تكون هي وأخته تحت رعايته . . وما أخافها وأسعدها في نفس الوقت أنها تلاحظ أن له هيبة بين أقرانه أو حتى بين الرجال . . فكانوا يحرصون على عدم إهانة أى منهما أمامه . ولفت نظرها انه بدأ يهتم بنفسه ونظافة ثيابه بشكل واضح . فبدأت تخشاه أكثر وأكثر وازداد حرصها في نزواتها . . بل قلت الى حد بعيد .
وذات ليلة خرج بعد تناوله العشاء . . وعندما عاد لم يجدها في الدار وأخبرته أخته أنها قالت أنها ذاهبة في مشوار صغير وستعود . . انتظرها واقفاً أمام باب الحجرة . وطالت غيبتها . . وعندما عادت وجدته واقفا مازال في انتظارها . . وانتظر عليها حتى دخلت من الباب ثم أوصده خلفه . . واحضر عصا كان قد أعدها من قبل خلف الباب ثم سألها والشرر يتطاير من عينه
-أين كنتي ؟!
فأجابته باستكانه :
- فى مشوار
- فين المشوار ده .
زعقت فيه :
-إنت اتجننت . . بتحاسبني ياواد .
عند ذلك أدرك . . تمام الإدراك . . . إنها عائدة من إحدى نزواتها . فانهال عليها بالعصا . . وعندما صرخت . . وضع يده على فمها قائلا :
-اقسم بالله العظيم . . إن سمعت لك صوت ؟ ما عاد طالع لك صوت بعدها .
وأخذ ينهال عليها ضربا . . وفى أي مكان تطوله العصا . . حتى استسلمت له تماما . . وانهارت على ارض الحجرة وهو مازال ينهال عليها وأصابتها ضربة قوية على رأسها . . فصدرت منها صرخة مكتومة . . وضعت يدها على رأسها وكفت عن الحراك .
كف عن الضرب . . ووضع العصا مكانها خلف الباب . نظر إلى أخته . . فوجدها منزوية في أحد أركان الحجرة مذعورة . صرخ بها .
-إياك تمشى على هواك زيها . . . ساعتها سوف أقتلك أنت وهى . قومي رشي عليها شونة ميه وفوقيها ولا عنها ما فاقت .
ثم خرج من الحجرة . . وأغلق الباب وراءه وظل جالسا أمام الحجرة . . وقد جافاه النوم حتى سمع آذان الفجر من المسجد القريب من الدار . عندها دخل الحجرة وانزوى في ركن بعيد عنهما ومدد جسده المكدود . . ونام حتى الظهيرة .
وعندما استيقظ وجد أخته . . تقوم بإعداد الطعام وأمه مازالت ممددة على الفراش . وقد ربطت رأسها بوشاح مبلل بالماء . فقالت له أخته :
-أمك مش قادرة تتحرك .
-عنها ما تحركت . . خليها تموت أحسن .
وظلت في رقدتها هذه ما يقرب من أسبوع عادتها فيه الجارات ونساء الحارة . على سبيل المجاملة . وبعد يومين امتنعت فيهما عن تناول الطعام تماما . . أخذت تستجيب لإلحاح ابنتها وتتناول القليل منه . وفى ليلة . . أيقظته شقيقته .
-حجازي . . أمك باين عليها ماتت . .
شهقت وسكنت مرة واحدة .
فقال لها بعد أن تحسس جسد أمه ووجده بارداً صلباً.
-أيوه . . ماتت
صرخت أخته . . صريخا متواصلا . . حتى اقتحم عليها الجيران الحجرة . وعندما تبينوا حقيقة ما حدث . . احتشدت النساء بالحجرة . . وجلس مع الرجال أمامها مستعينين على الظلمة ببعض الفوانيس . . حتى طلع عليهم النهار وانتهى الغسل وتم دفنها بعد صلاة الظهر وأصر على أخذ العزاء في المقابر فقط . ثم عاد إلى حجرته وأغلق الباب عليه هو وأخته .
الابنـــــــــة
منذ رأت صبرية أخاها حجازي وهو يضرب أمه في تلك الليلة وهى لا تدرى ما حدث لها . أشياء بداخلها تغيرت . . . ومعان جديدة ترسبت . لقد أدركت من الوهلة الأولى السبب الرئيسي الذي دفع أخاها لفعل ما فعله . . وهى وان كانت لم تظهر ذلك . . توافقه . شيء ما ثابت وراسخ في رأسها يميل إليه . لكنها بعواطفها تشفق على أمها . فقد فهمت منذ زمن ليس ببعيد وهى اصغر من ذلك بسنوات . . معنى ما تفعله أمها فقد استيقظت ذات ليلة على صوت وحركات أمها أثناء معاشرتها لواحد من المترددين عليها .
ولم يفطنا إليها . . فأغمضت عينيها وادعت النوم وظلت تنصت لكل شيء حتى غادر الرجل الحجرة . وعندما تمددت أمها بجانبها . . سألتها بصوت هامس
-مين ده . . يا أمه .
-يا خرابي . . أنت كنت صاحية .
سكتت الأم لحظات . . وضربتها بعدها على وجهها . . وهددتها قائلة .
-إياك تقولي لحد . . حتى أخوكى . وإياك تستعبطي مرة ثانية وتتصنتى علينا .
- وليه كده يا أمه ؟!
- عندما تكبرين . . سوف تعرفين ليه .
فهمت أن هناك شيئا ما . . تفعله أمها . . وتخشى أن يعرفه أحد . ولكنها لم تفهم . . لماذا تفعل ما تخشى أن يعرف أنها تفعله ؟! ثم من هو هذا الذي يتردد عليها ليلا ؟ أهو واحد بعينه أم أكثر من واحد ؟ وهل لو كان أبوها حياً كان سيسمح بذلك ؟ . . ثم لماذا تخشى ان يعرف أخى بذلك ؟ أليس صغيرا مثلها ؟
أسئلة كثيرة دارت برأسها ولم تعرف لها إجابات وان كان ذلك فى حد ذاته قد ولد لديها أمانٍ كبيرة . في أني يكون أبوها مازال حياً . . . على الأقل لم يكن ليحدث ما يحدث الآن .
داعبتها الرغبة في أن يكون واحد من المترددين ليلا على أمها . . يعاملها كأب ويشعرها بأبوته ساعتها لن تتردد فى أن تلقى بنفسها بين أحضانه . . لكن . . لا . . إنها لا تعرف منهم إلا أشباحاً ليلية . فاتجهت بمشاعرها إلى أخيها الأصغر . . فليكن هو أخاها وأباها . ومن لها غيره؟ فأحست بحبه يسرى فى وجدانها كله .
ولما رأته يضرب أمه . . خافتة . أحبته وخافتة في الوقت نفسه . وحاولت أن تتفهم أسباب ضربه لها . فطالما كان ذلك الأمر لا يتم إلا ليلا ونحن نائمون فإن ذلك أمر على ما يبدو خطأ . . وفهمت فيما بعد انه حرام أيضا . ولهذا وافقته على أن يضرب أمه . لكن أن يصل الأمر إلى كل هذه القسوة عليها . . فهذا ما كانت لا تتصوره . . وذلك ما أرعبها من أخيها . . أخافها بل جعل الخوف منه يسرى في كل بدنها . . تتشربه خلايا جسدها والذي زاد من هذا الخوف . . موت أمها بعدها بأيام قليلة . وأصبحت تخاف من الرجال . . كل الرجال لأنه واحد منهم أولا . . . ولكونهم السبب في انه ضرب أمه أمامها ثانيا .
حقا . . بعد موت أمها . . وعندما أصبح لا أحد لها سواه ولا أحد له سواها . اتضحت مشاعره ناحيتها وبدا لها عطوفا . . حنونا . . يخاف عليها من نسمة الهواء على حد القول . ولأنه لم ير منها ما يمت بأية صلة إلى سلوك أمه . . وخاصة بعد أن تفتحت أنوثتها . . وبدأ جسدها يستوي . . وتتضح معالمه . . بساقيها الملفوفتين وردفيها الممتلئين كأمها تماما إلا أنها تميزت عنها باستدارة الوجه مع ميل إلى البياض أكثر من أمها . ومسحة من جمال في ملامح وجهها .
أخذت من جسد أمها إثارته . . وزادت عنه في جمال الوجه وميله إلى البياض . فكانت مثار اهتمام الكثير من الشباب . وفى نفس الوقت مثار اهتمام أخيها ومبعث فخره إنها لا تمت إلى أمها بصلة من ناحية السلوك . حتى أنه حدث يوما أن واحداً من مريديها انتابته الشجاعة وحاول إثارة انتباهها إليه . . فغازلها . . فما كان منها إلا أنها صدته صدوداً عنيفاً . . وأخبرت أخاها فما كان منه إلا أن تربص بذلك الشاب وأعطاه علقة يحلف بها طوال حياته . وبعد العلقة هذه بشهرين . . فوجيء حجازي بهذا الشاب يستوقفه يوما ويلاطفه ويخبره بأنه يرغب في زيارته بصحبة أبيه خاطبين شقيقته . فرحب به . إلا أن دهشته كانت بالغة عندما وجد من أخته اعتراضاً شديداً على الزواج وخاصة انه يرى أن الشاب مناسب جدا لأخته . . وعندما استوضح منها الأمر . هل هي ترفض الشاب ؟ أم ترفض الزواج بشكل عام ؟! وعلم انه رفض لفكرة الزواج . . ظل يحاورها حتى فهم منها حقيقة مشاعر الخوف التي بداخلها . فأخذ يلاطفها ويداعبها ويفهمها أن الزواج بالنسبة للبنت هو السترة حتى لا يحدث منها ما حدث من أمها . . وأن أمها إنما فعلت ما فعلت لأنها كانت بدون زوج فقدت أبيهما وهى مازالت امرأة صغيرة في حاجة إلى الرجولة وإلى من يسترها .
وبعد أيام قليلة من محاولاته معها . . وافقته . إلا أن الخوف من الرجل . . أي رجل . . مازال مترسبا في داخلها .. لم يزايلها . . إلا بعد ما عاشرت زوجها ووجدت منه حسن المعاشرة والطيبة . . فسارت حياتها بعد ذلك طبيعية واطمأن أخوها عليها .
الابـــــــــــن
لم يكن الأمر سهلا ولا هينا على حجازي . . أن يتناول العصا التي احتفظ بها خلف الباب لتكون سلاحه في وجه أي معتد على حرمة داره وينهال بها على أمه بكل هذه القسوة حتى تتوقف عن الحركة تماما . ذلك ما لم يكن قد فكر فيه أو رتبه . ربما نتيجة ما اختزنه بداخله . أو تصرف عصبي وليد اللحظة . حقا منذ اللحظة التي أدرك فيها ما تفعله أمه . . يوم أن اجتمعت عليها المرأتان وضربتاها أمام أهل الحارة . . . ومزقتا ثيابها . وعرياها أمام الرايح والجاى . وهو مليء بالغل منها . . يكرهها . . ربما لا يكرهها كأم . . بل يكره تصرفاتها .
فهل يوجد الابن الذي يكره أمه ؟! بداخله شيء انكسر . . تهشم تماما . . وتناثر حطامه بداخله فأدخل المرارة والألم في كل أعضاء جسمه. وتولدت لديه قناعة بأنه لاشيء أسوأ من ذلك بالنسبة له . فتساوى عنده كل شيء . . وكل فعل . . الخطأ مثل الصواب . . والحرام مثل الحلال . فصار عنيفا مع أقرانه . . شرسا في طباعه . . . جريئا في أفعاله . حتى أصبحوا جميعا يخشونه ويحاولون التودد إليه تجنبا لشراسته وكلما كبر. . كبرت معه الأحاسيس التي بداخله . . وازدادت قوته وشراسته . فلم يعد يقف أمامه شيء . . إذا أراد شيئا . . فهو له. وعرف في القرية كلها بذلك . وتعرف خلال تلك الفترة بامرأة شابة تكبره سنا تسكن في داير الناحية . مات عنها زوجها وترك لها قطعتي أرض من أراضى الإصلاح الزراعي وداراً من ثلاث غرف ورأسين مواشي .. أخذ يتردد عليها . قبلته في البداية خوفا منه . . وحصنا تحتمي به من الآخرين . . . إلا أنها بعد ذلك أحبته بل وتمنته لنفسها لم يكن يريد منها إلا ما فقده من أمه . . حنان . . عطف . . أمومة . يتحدث معها وتحادثه . . يشكو لها وتشكو له . في البداية كان كلما ذهب إليها . لا يذهب خاوي اليدين . لم يكن يشغل باله بالتفكير في أي شيء.. إذا وجد أمامه دجاجة.. أمسكها وأخذها معه . إذا مر على أحد من بائعي الفاكهة أو الخضر طلب ما يريده وأخذه دون نقاش ومضى. إلا أنها بعد مدة بسيطة أقنعته أنها لا تريد منه ان يفعل ذلك وأنها لا تريد منه إلا أن يأتيها بشخصه فقط . وان يكون راعيا . . لها ولأرضها وبيتها . . . وحامياً لها من أطماع الرجال الذين ينظرون إلى أرضها وبيتها . . قبل أن ينظروا إليها كإنسانة تريد أن تعيش عيشة كريمة . فهمها . . واستجابت نفسه لما تريده منه . . فأطاعها .
كان ذلك أثناء حياة أمه . . وعرفت به إلا أنها لم تجرؤ على الحديث معه في هذا الأمر . كما أنها كانت تعرف كل شىء عن أمه فلا شىء يظل مجهولا فى القرية . إلا أنها لم تحدثه عن أمه أبدا ولم يحدثها هو أيضا عنها .
وعندما كف يده . . عن اخذ ما يريده . ظلت خشية الناس منه كما هى إضافة إلى إمتنانهم لذلك . فطالما كفى الناس شره . . فله الشكر على ذلك . وأخذ يركز كل اهتمامه على أرضها ومراعاة كل شئونها حيث قاطعها أهلها بعد ما عرفوا بأمرهما معا . وعندما وجد نفسه مدفوعا إليها دفعا . . وأصبحت هى كل اهتمامه . . نبتت في رأسه فكرة الزواج منها . المدهش في الأمر انه لم تراوده معها في أي وقت رغبة جنسية تجاهها أو حتى تجاه أي امرأة أخرى . . طوال هذه المدة التى تردد عليها فيها . لم يفكر ولو مرة واحدة أن يمارس عليها رجولته . ولم تطلب هي منه ذلك ولو تلميحا .. تركته على سجيته تماما . وهذا ما كان يجعله يشتاق إليها ويهفو إليها أكثر من أي إنسان . فقط عندما تقدم لأخته من يطلب يدها . . نبتت في رأسه الفكرة . لم لا يتزوجها . ووجد نفسه يسألها مرة. . هذا السؤال:
- إلا إحنا ممكن نتجوز ؟!
- ومش ممكن ليه .
هكذا أجابته بعد لحظات صمت .
وجد نفسه . . يردد . . ما رددته .
صحيح . . مش ممكن ليه . . طب عن إذنك لحظات وخرج وهو يحدث نفسه بصوت عال مرددا عليها السؤال ومجاوبا عنه في نفس الوقت .
وعاد ومعه المأذون وشاهدان .
أنا . . كان . . مالي
اعتلى (( سلامة الجمال )) سنام جمله البارك . . دغدغ عنقه بعصاه الخيزران الذي يحرص على وجودها بيده دائما. حتى ولو لم يكن راكبا جمله . نهض الجمل واقفا يتأرجح وسلامه للأمام وللخلف حتى تم له الوقوف . . اعتدل في جلسته . . مد عصاه يداعب بها عنق الجمل وموجها إياه إلى طريق الحقل .
لم يكن يشغل باله ساعتها إلا أن يعود بحمل (الدريس) على صلاة الظهر . . قبل أن تقدح الشمس ويشتد لهيبها . ويرقد كخلق الله مقيلا ساعة الظهيرة .
ألقي السلام على كل من قابله . . رجلا كان أو امرأة. حتى إذا خرج من حارتهم إلى الطريق الرئيسي بالقرية . . تناهى إلى سمعه صوت مشاجرة بين امرأتين . . رنا بناظريه ناحية مصدر الصوت . فشاهداهما تتشاجران وقد تماسكتا بالأيدي . . وتتشاتمان . عند صنبور الماء (مكان وضع به صنبوران لماء الشرب ) وقد وقفت بقية النسوة التي حضرن لمليء جرارهم بعيدات لا يتدخلن بين المتشاجرتين .
حتى إذا وصل إلى موقع المشاجرة. . سأل إحدى النسوة الواقفات .
- مين دول يابت ؟! . ومالكم واقفين وسايبنهم يتخانقوا ؟!
- سيدة وبنتها . . يا خويا . واحنا مالنا .
- سيدة وبنتها .
قالها في استنكار . . وأسرع بالهبوط عن ظهر الجمل وهو واقف . وأسرع نحوهما بعصاه .. الطويلة يلهب بها ظهريهما . . مركزا أكثر على الابنة .
-اوعى يا بت . . سيبي أمك .
التحمت . . المرأتان أكثر . . فاختلط الأمر عليه وخاصة أن حركتهما كانت بشكل دائري . فكانت تنزل عصاه كيفما اتفق عليهما.
زاد حنقه عليهما . . وازدادت ضرباته قوة . فجأة . . توقفت المرأتان . . وتركت كل منهما صاحبتها . . وفى لحظة واحدة هجمتا عليه كل من ناحية . . وصراخهما يزداد . . وسبابهما يعلو .
من ذهوله . . توقف عن الضرب . . ويده مازالت مرفوعة بعصاه .
أمسكت الأم بخناقه . . وابنتها من خلفه تنهال عليه بيدها .
شلت يداه . . أيتشاجر مع النساء ؟! انه كان يفصل مابينهما وهما تتشاجرن أما أن يصل الأمر للمشاجرة معهما فلن يصل الأمر إلى هذا الحد ،إن ذلك مستحيل .
وقف مذهولا . . والضرب ينهال عليه من كل ناحية . أفاق لنفسه بعد لحظات . . صرخ فيهما .
-بتضربونى ليه . هو أنا عملت حاجة .
-قطيعة تقطعك حتت . أمال أنت كنت بتعمل إيه .
-أنا باحوش بينكم .
-حد قالك اتدخل . . . أنا وبنتي بنتخانق إنت مالك ياحشرى .
عند ذلك كانتا قد توفقتا عن الضرب . وتركتاه بعد أن مزقتا جلبابه .
على الطريق
اعتلت الشمس كبد السماء . . أخذت حرارة أشعتها تزداد لهيبا . دون أن تسمح بنسمة هواء . . . تخفف من لظاها . موقف السيارات الخاص بالقرى التابعة للمركز عامر بالحركة بين سيارات قادمة وأخرى ذاهبة . وضجيج القادمين والذاهبين والباعة الجائلين وكل سائق بجوار سيارته التي عليها الدور في الحركة ينادى ركابها .
ومن بينهم وقف (( محفوظ )) ينظم الركاب داخل السيارة مكدسا إياهم حتى يمكنه تحميل أكثر عدد منهم . دون اعتبار لأي شيء آخر حتى إذا فرغ من مهمته . . أغلق عليهم أبواب السيارة حتى يكون مطمئنا لعدم فتحها أثناء السير . ركب مكانه وأغلق بابه . . أدار سيارته . . . وتحرك يتهادى حتى إذا خرج من المدينة . . سلك طريقا ضيقا . . مرتفعا عن مستوى الأرض . . يمينه ترعة كبيرة . . ويساره ارض زراعية منخفضة عن مستوى الطريق بما لا يقل عن خمسة أو ستة أمتار . نتيجة لتجريف الأرض . طلب من ركابه بصوت عال:
-الفاتحة للنبي يا جماعة .
أخذ الركاب في تلاوتها . . وهو معهم . .
اعتدل في مقعده . . واسند ظهره إلى ظهر المقعد . وفرد طوله . . وركز ناظريه على الطريق . . التي بدت أمامه ضيقة . . ملتوية كالثعبان ومع ذلك في اتجاهين . زاد من سرعته قليلا حتى يمكنه العودة . أسرع ليلحق وقت خروج الموظفين من أعمالهم ممنيا النفس بإيراد طيب . فاليوم يوم سوق المدينة الرئيسي والحركة من الفجر على خير ما يرام وعندما بدأت تخف . . لقرب انفضاض السوق . . اقترب موعد انصراف العمال من أعمالهم . أحس واحد من الركاب برغبة في التبول . ولإحساسه بكثرة الركاب في السيارة وجد حرجا شديدا أن يطلب من السائق التوقف . فأقنع نفسه بالصبر حتى يصلوا وخاصة أن السيارة قطعت ما يقرب من نصف الطريق . وهى تتهادى بطيئة . . من قدمها وكثرة ركابها .
وفى نفس الوقت تزداد الحاجة إلى التبول عند الرجل حتى لم يعد قادرا على التحمل . صرخ فجأة في السائق .
-يستر عرضك . . وقف دقيقة واحدة . أتبول فيها . . أنا راجل مريض وما عنتش قادر أتحمل .
-يا عم ده وقته .
قال راكب .
-يا أسطي . . مفيش فيها حاجة . . الراجل مريض .
وصمت باقى الركاب . فأحس السائق . . بحرج .
-طب ياسيدى . . . مانقفش ليه . بس وحياتك بسرعة ماتعطلناش
وأخذ الركاب يهبطون من السيارة لإفساح المجال للنزول . حتى إذا وجد نفسه على الأرض اخذ يعدو حتى بعد قليلا . وقف ورفع ثوبه وأخذ في التبول .
إلا انه سمع بعد قليل صوت نفير السيارة يزعق فاعتقد أن السائق يتعجله فهتف به .
-خلاص . . أنا جاى اهوه . . . الصبر يا رجل .
حتى إذا فرغ من قضاء حاجته اخذ يعدو الى السيارة .
والنفير يزعق . وعندما وصل وجد السائق ورأسه مسندة على مقود السيارة والنفير يزعق . مد يده دافعا السائق برفق من كتفه قائلا .
- خلاص . . أنا جيت .
وأخذ يركب ومعه باقي الركاب .
إلا أن رأس السائق ظل كما هو . . والنفير على ما هو عليه .
فدفعه الراكب الذي بجواره إلا أن دفعته كانت قوية بعض الشيء . . . فتحركت رأس السائق . . ومال بجزعه على باب السيارة . .
صرخ واحد من الركاب .
- السائق مات يا رجالة .
الرحلة الأخيرة
استيقظ الحاج عبد الجواد .. مبكراً .. كما اعتاد منذ الصبا أيام كان المرحوم والده يصر على إيقاظ البيت بكامله صغيرا وكبيراً قبل آذان الفجر .. صيفا وشتاءاً . ليتأهب الكل ويتوضأ .. ثم يذهبون فراداً أو جماعة إلى المسجد القريب من الدار .. وبعد أن يعودوا من الصلاة يكون طعام الإفطار قد أعد فى انتظارهم .. وأثناء فطورهم يلقى على مسمع كل منهم ما يجب القيام به من عمل خلال يومه .
حقا لم يكن عددهم يتجاوز الأربعة رجال وابنتين . لكن والحمد لله فيهم البركة .. كما أن الأرض لم تكن كبيرة بالكاد الثلاث قطع التي خصصت لهم من الإصلاح الزراعي كل منها ثلثا فدان .. إلا أنهم يزرعونها بأيدهم وإن احتاجوا إلى أيد معهم فيكون ذلك بالمزاملة ( أي يذهبون يوما مع أي من الجيران أو الأقارب على أن يحضر معهم نفس العدد عند الحاجة ولنفس المدة ) .
ونظراً لأن الوالد كان يعتقد أن التليفزيون والسهر وما إلى ذلك من مفاسد الدنيا فقد اعتاد وعود أولاده على النوم من بعد صلاة العشاء وحتى موعد ايقاظهم . ولم يدخل هذا الجهاز دارهم حتى الآن . ولأن الحاج عبد الجواد مازال يسير على نهج أبيه . لكونه هو الذى بقى فى الدار . حيث أن كل أخ من أخواته بعد موت أبيهم كان يرى أن يستقل بدار له . بحجة أن الحريم فى تجمعهن مشاكل كثيرة وبدلاً أن يحدث بين الأشقاء ما يفسد الود . كان الاستقلال كل بداره .. حقا .. وجد كل منهم متاعب كثيرة نتيجة لذلك .. فالموارد قليلة .. والأرض محدودة .. إلا أن رد عبد الجواد لأي منهم عندما يحضر إليه شاكيا ..
-يا أخي .. هذه كانت إرادتك أنت وزوجتك . فعليك أن تتحمل نتيجة اختيارك .
واستقل عبد الجواد بالدار .. حيث اختارت والدته البقاء معه وكذلك نصيبها في الأرض والدار ونصيبي البنتين أيضا .
حيث رأيتا فيه رائحة أبيهم كما قالتا وحنانه . وطيبة زوجته عن زوجات أخويه .
وكان لزاماً على عبد الجواد أن يقوم بود أختيه فى المواسم والأعياد .. رداً للجميل ووفاء بعهد أبيه معهما حيث كان يصطحبه بوصفه الأكبر فى ذهابه إليهما فى كل موسم وعيد حاملين معهما ما تيسر من رزق الله . لم يكن الوالد يستنكف أن يحمل معه كيلة أرز أو شوية عيش إذا تعسر الحال وإنما كان أكثر همة في الذهاب حينئذ قائلا:
-ود البنات رحمة في الدنيا وفى الآخرة . ولو حتى تسلم عليهم وترجع . كمان ترفع رأسهن أمام أزواجهن .
وعلى ذلك اعتاد عبد الجواد . بعد والده .
تناول فطوره .. بعد أن عاد من صلاة الفجر وشرب كوب الشاي من غير سكر كماأوصاه الطبيب بعد اصابته بمرض السكر . وقبل يد والدته وحمل ما تيسر حمله .. ناويا زيارة أخته بمناسبة النصف من شعبان .. التي تعيش في إحدي القرى التابعة لمركز آخر . بعد أن زار أخته الثانية التي تسكن معه في نفس القرية ليلة الأمس بصحبة والدته وزوجته . ونظراً لكبر سن والدته وبعد قرية أخته الثانية يفضل السفر إليها وحده وخاصة بعد اعتلال صحة والدته وعدم قدرتها على السفر حيث اعتادت قبل موت الوالد . ولأن أخته سعاد قريبة من قلبه أكثر .. ربما لأنها البعيدة . كان سفره إليها يسعده أكثر .
انحشر مع غيره في سيارة قديمة من السيارات التي تنقل الركاب إلى المركز .. حتى إذا وصل إلى الموقف حمل (القفة ) على كتفه .. ووضعها على شبكة السيارة الأخرى.. التي ستنقله إلى قرية أخته واندس داخلها بين الركاب . حتى إذا امتلأت عن آخرها .. أخذت في التحرك وتهادت على الطريق .. وهي تنوء بحملها .. شاقة طريقها غير الممهد بين الحقول كأنها سلحفاة تتحرك . وكلما مرت بإحدى العزب أو أحد الكفور .. هبط منها فرد أو فردان .. وربما صعد مكانهما ركاب آخرين .. أو يفسح الركاب مكاناً للصاعد . حتى إذا وصل عبد الجواد إلى نهاية رحلته رفع حمولته على كتفه وشق طريقه إلى بيت أخته التي قابلته بالأحضان . والتفت حوله هي وأولادها الستة مهنئين بسلامة الوصول . ولما لاحظت عليه الإجهاد .. طلبت منه أن يستلقى طلباً للراحة بعض الوقت حتى يعود زوجها من الحقل وتكون قد انتهت من إعداد الطعام للغداء .
انتهت من إعداد الطعام قبل عودة زوجها من الحقل . حيث كانت قد نهضت مبكرة كعادتها واعدت من أجل أخيها ما تعرف أنه يشتهيه من ألوان الطعام حتى إذا انتهت وصل زوجها فطلبت من الاغتسال وصلاة الظهر حتى يستيقظ أخوها . ولما طال نومه أراد زوجها أن يدخل عليه الحجرة . طلبت منه أن يتركه قليلا حيث أنها لاحظت أنه متعب . كما أنها تعرف أنه لا يطيل النوم ظهراً .
وبمضى الوقت دون استيقاظه .. خشيت أن يبرد الطعام ويفقد لذته وطعامته . فطلبت من ابنها الصغير .. الذى اسمته على اسم خاله والذى كان أثيراً لديه .. ويدلله أكثر من غيره .. أن يتولى مهمة ايقاظه .. ونهضت لتعد الطعام . بهدوء دخل الولد على خاله .. الذى كان ممدداً على الفراش ويداه على صدره .. ضغط عليه مداعبا إياه . فلم يجد صدى لمداعبته . ألقى بنفسه على وجهه ناشداً تقبيله . فتم ما أراد دون استيقاظ الرجل أو حتى يبدي حراكا . أمسك بوجهه بين يديه .
- قوم .. قوم .. الغدا جاهز
فلم يبد من الرجل حراك .
خرج الطفل إلى أبيه زاعقا ..
خالى مش عايز يقوم ..
ثم جرى إلى أمه قائلا لها نفس العبارة .
هب والده من مجلسه منزعجاً .. وجاءت زوجته من الداخل مهرولة . وتسابق من يدخل منهما أولا . حتى إذا وقفا أمام الفراش ولاحظا تمديدة الرجل على الفراش .. خطر على بالها فى الحال منظر والدها عندما دخلت عليه وهو ميت .
فصرخت باكية وهي تنهار فوق جسده .
آه .. يا ولدي
أغلقت باب حجرتها .. بل بيتها .. إذ لم يكن البيت يتكون من سواها . خففت من ضوء الزبالة التى تضئ الحجرة إلى أقصى مدي ممكن . تهالكت على الفراش الذى كان حتى الأمس فقط فراشهما معا . أريكتان متجاورتان وعليهما مرتبة خفيفة . وضعت رأسها على أول الوسادة وطوت بقيتها فوقها .
لا تريد أن تسمع الأصوات التى تتواتر إلى مسامعها من مكبرات الصوت معبرة عن الفرح والسرور بليلة العرس . التى لم تكن فى يوم من الأيام تتمني حدوثها . وإن كان فى يقينها أنها لابد حادثة ذات يوم .
إلا أنها كانت تتمني أن يكون هذا اليوم بعد موتها . وإن كان المنطق والعقل أن تتمناها له كأم . وأن يكون فى حياتها .. بل وتبتهج كأم العروس وأكثر . وتدق الطبول .. ولا مانع من أن تبالغ فى إظهار فرحتها أمام الناس وتحزم وسطها بأي وشاح وتتمايل فرحاً بقدر استطاعتها كعجوز مثيرة حولها جو من الانشراح والسرور . أليست هذه الليلة .. ليلة عرس ابنها . وحيدها .. الذى احتوته بداخلها صغيراً وكبيراً . غمرته بكل حبها وحنانها ورعايتها طفلا .. واحتضنته كبيراً بحيث لم يكن يواتيها النوم إلا وهو بين ذراعيها . اكتفت به . أغناها عن كل رجال الدنيا . كانت تحتضنه .. تشعر بانتشاء وسعادة .. تغنيها عن كل الرجال . فلم تفكر فى يوم بعد موت زوجها وهو ابن عشر سنين متأثراً بمبيد حشرى لدودة القطن بعد أن رش به أرض العمدة .. لم تفكر فى الزواج . حقا لم يتقدم لها أحد ورفضته . ولكنها كانت بينها وبين نفسها قد قررت أن تعيش له وله وحده . لم يغب عن عينيها يوما .. ولم يأكل أو يشرب إلا من يدها . كانت تعمل فى الحقول وتتركه هو يرتاح فى الدار .. تشقى هي .. ويخلد هو للراحة .. ويوم تتركه للعب مع إقرانه .. لا يبعد عن ناظريها .. حتى بعد أن كبر وبدأت ملامح الشباب تشكل ملامحه .. استمر حدبها عليه كما هو .. حقا بدأ يبدي بعض التبرم حينا بعد حين . ويتمرد على البقاء فى الحجرة طوال اليوم .. وأقرانه منهم من يعمل فى الحقول .. ومنهم من يحترف حرفة يأكل من ورائها عيشه .
فأراد أن يكون كواحد منهم .. يمتهن مهنة .. حرفة .. وخاصة أن أمه لن تعيش له طويلا .
أصرت في البداية أن يحترف أي عمل يمارسه أمام الدار. فتمرد على ذلك وأصر على أن يعمل مساعداً لسائق الجرار الزراعي لدي أحد أثرياء القرية . الذي كانت داره بالقرب منهم .. وكان له ما أراد . وبرع فى ذلك حتى اشترى الرجل جراراً آخر ليكون هو سائقه وبمفرده .. فبدأ يبعد عنها .. عندما يذهب إلى حرث الحقول أو رى الأراضي .. فلم يكن يهنأ لها بال إلا بعد عودته .. وإن بات فى الحقل .. تذهب إليه .. تسهر معه طوال الليل .. حتى تبرم منها وأقسم عليها إن فعلت ذلك ثانية .. أن يتركها ويترك البلد كلها ويرحل دون رجعة .
فخافت أن يفعلها . فلم يكن يأتيها النوم .. وتجلس طوال الليل أمام باب الدار فاتحة بابها فى انتظاره . وبمجرد حضوره تسارع بهمة ونشاط بتحضير الطعام التى لم تتذوقه .. والمعد سلفا .. ويأكلان معا .. وتنام معه كما لو كانت طوال الليل معه بالحقل .. أحياناً كانت تقول لنفسها .. وهي ساهرة فى انتظاره :
" الواد كبر .. بقى راجل .. ولا داعي لكل هذا الخوف عليه "
إلا أنها كانت تثور على نفسها .
" طب وانا أعمل إيه .. قلبى لا يطاوعني .. ده هو اللى طلعت به من الدنيا " .
لم يخطر على بالها أبداً .. أن يأتي يوم ويقول لها .
" أنا عايز أتجوز "
أو
" شوفى لى عروسه "
بالرغم من أنه كبر أمام عينيها وأصبح شابا يافعا .. مؤهلاً لذلك .
أيتزوج وينام فى أحضان امرأة سواي .. أناأمه ويوم أن فاتحها فى رغبته بالزواج من إحدي بنات القرية راقت له .. جن جنونها .. طار عقلها .. تمنت أن تميد الأرض من تحت قدميها .. تبتلعها .. لم تنم طوال الليل .. أخذت فى البداية قوله على أنه مداعبة منه أو أي شئ آخر إلا أن يكون جاداً فى حديثه .
- ها تلاقى زي أمك .. يا عين أمك
- لا .. مش هالاقى .. بس أنا عايز أتجوز بواحده تكون قريبه منك .. ولو شويه .
- هو أنت ناقصك إيه .. كل حاجة أنا بعملها لك ..
أكلك .. شربك ..
- أكل إيه .. وشرب إيه .. يا أمه أنت ناسيه أهم حاجه .. أنا عايز واحده أتجوزها .. أعاشرها زي كل الرجاله اللى بتتجوز وتخلف عيال .
أدركت بحسها الأنثوى ما يعنيه .. لكن الأنثى فيها كانت قد ماتت من سنين .. فكيف تفكر بفكرها وتعقل الأمور بعقلها .
- ماشى .
- يعني إيه ماشى .. مالك بتقوليها كده من غير نفس.. ألا تريدين لى الزواج كباقى الشباب .
- ازاي ده أنت عندي بكل شباب البلد .
- أمال إيه يا أمه ؟!!
سكتت .. فلم تجد ما تقوله .
حرائق الدنيا .. اشتعلت فى صدرها ليلتها .. كل شياطين الأرض اجتمعت وتراقصت حول رأسها . أينام فى أحضان امرأة أخرى سواى ؟! ايأكل من يد امرأة عداى ؟!! هل تفقد سعادتها ووجدها وهي تعد له طعامه وشرابه .. وهي تغسل له ملابسه .. وتحرص كل الحرص على أن تكون أنظف من الصيني بعد غسيله ؟! كيف يتأتي لها أن تستعيض عن هذه المشاعر والأحاسيس لو تركته يتزوج ؟! والمصيبة الكبرى أنها تصورت ومعها كل الحق طبعاً .. أن العروسة إن شاء الله سوف تطلب بيتاً مستقلاً تعيش فيه مع عريسها .إمال يعني ها تيجي تعيش معايا فى الحجره دي .. يا لمصائب الدنيا التى وضعت كلها على رأسها تلك الليلة .
عند هذا الحد .. قررت بينها وبين نفسها أن تجاريه .. ومن ورائه تسعي لتخريب كل طريق إلى الزواج .
ذهبت معه إلى أهل العروسة .. جلست مع أمها . واتفق هو مع والدها .. اتفاق رجال أمامها .. وهي صامتة كأنها تشاهد تمثيلية تليفزيونية . وعندما عادا إلى دارهما هاجت على أبنها وماجت .. مفتعلة الغضب من مقابلة أهل العروسة.
-هما كانوا قاعدين كده ليه .. ماحدش مالى عنيهم.
هي يعني ست الحسن والجمال .. وأبوها كمان كان نافش ريشه وبيتشرط عليك كده ليه ؟! هي البلد مافيش فيها غيرها .. هو احنا حيلتنا إيه علشان يطلب كل اللى طلبه ده .
جن ابنها وخاصة أنه كان متصوراً أنها كانت راضية وأنها لم تفتح فمها طوال الجلسة . كما أن الرجل لم يغال فى طلباته كما ادعت بل كان معقولاً جداً . فهاج بها .
- إيه اللى جرى يا أمه .. ما انت كنت قاعده .. ماقلتيش ليه اللى انت عايزاه . الراجل قال لك اللى تؤمرى بيه قلت له البركه فيك وفى أم العروسة . إيه اللى مزعلك الوقت يا أمه ؟!
أخرستها ثورته .. فلاذت بالصمت .
وعندما رقداً ليناما .. أعطاها ظهره غاضبا .. فلم تطق بعده وتصبر على غضبه .. احتضنته وداعبته قائلة ..
-يا ابني هو أنا أكره . ده اليوم اللى أنا مستنياه طول عمرى . بس لازم نحس إن أهل العروسة فرحانين .. مش مستقلين بينا .. وبصراحه كده .. أنا مش عارفه اشمعني دي اللى أهلها طالعين بيها السما . طب بكره أنا هاشوف لك ست ستها .
- بس أنا باحبها يا أمه .
صمت قليلا .. كأنما يراود نفسه .. ثم قال .
- لكن عشان خاطرك يا أمه .. أنا موافق بس بسرعة.. علشان لو ملقتيش اللى على هواك .. نكون ما تأخرناش فى الرد عليهم .
- كلها أسبوع واحد .
وسرعان ما مر الأسبوع .. دون أن يرى سعيا جاداً من أمه.. أو حتى تفاتحه فى الموضوع .. كأنها نسيت كل شئ.. وعندما انتهى الأسبوع الثاني .. فاتحها .
-مر أسبوعان يا أمه .
-لسه بدور لك يا عنين أمك .
-لا عنين ولا ثلاثه يا أمه .. ايه رأيك مش عايز غيرها .
ركب رأسه وأقسم إن لم يتزوجها فلن يتزوج سواها .
فدعت الله بينها وبين نفسها ألا يتزوجها ولا غيرها .
إلا أنها بعد عدة أيام . وبعد صلاة العشاء وجدته يرتدي جلباب المناسبات ويخرج دون أن يتحدث معها . وعندما سألته عن وجهته.. نظر إليها صامتا . ومضى دون أن يقول شيئا .
فأدركت أنه ذاهب إلى أهل العروسة بدونها .. وفعلا وصلتها الأخبار من جيران العروسة بما يؤكد صحة ما وصلت إليه . فقد أدخل أهل العروس فى يقينه أن أمه لا ترغب فى نسبهم وتأكد له ذلك من سلوكها معه . وعليه فإنهم يرحبون به وحده . وهكذا جرى الأمر .
وعندما طلب منها حضور كتب الكتاب .. أقسمت بالله أنها لن تحضر كتب كتاب تم بغير رضاها .
وقاطعت أهل العروس .. وبدأت كلما وجدته أمامها تزعم أن بها مرضا ما .. أو أن أهل العروسة قالوا فى حقها كلاماً ما وصلها .. أو شيئا من هذا القبيل . إلا أنه ركب رأسه وأتم كل شئ حتى ليلة العرس هذه .
أحست بأن الوسادة على رأسها .. تكاد تكتم أنفاسها فرفعتها عن رأسها . تنصتت على الأصوات الصادرة عن مكبرات الصوت الخاصة بالعرس .. حتى إذا أدركت أنه مازال مستمرا . جلست فى فراشها . أحست أن الضوء الصادر عن الزباله قوي .. قامت وأطفأتها . وقبل أن تعود لفراشها راودتها الرغبة فى فتح باب الحجرة التماسا لنسمة هواء تنعشها .. ترد لها روحها الضائعة .
فتحت الباب .. السكون يشمل الكون لا يعكره إلا الأصوات القادمة من بعيد والصادره عن العرس . جلست أمام باب الدار بعض الوقت . النار فى صدرها لم تخمد . أضلاعها تكاد تنطبق على صدرها .. نظرت فى الظلام بغير هدف ..حتى تناهي إلى مسامعها من الأصوات ما يدل على انتهاء حفل العرس . دخلت حجرتها . أغلقت الباب . تمددت فى الفراش . ثنت ذراعها الأيسر أسفل رأسها. وضعت الوسادة بالطول بجوارها .. احتضنتها . أغمضت عينيها متمنية على الله أن يسعد ابنها . وألا يخرج عليها النهار .
واحد .. ليس بغريب يا أمى
(1)
استجمع " سعيد " كل ما لديه من حواس .. ركزها في أذنيه .. واستنفذ مجامع نفسه متوثباً .. للحظة .. يسمع حفيف نعليها وهي تصعد درجات السلم في خفة .. كالطائر الوثاب فقد مضت عليه ثلاث ساعات منتظراً .. أن تصعد إلى السطح .. ولم يصل إلى أذنيه المتحفزتين أي إشارة تدل على خروجها من باب الشقة .
ألم تشعر بحضورى بعد ؟!
ألم يحدثها قلبها بأنني موجود فى انتظارها ؟!
ما الذى جرى ؟! ليمنعها من الصعود حتى ولو بطعام الدواجن التى تواليها . فى عشة تملأ جزءاً متوسطا من فراغ السطح بجوار الحجرة التى يستأجرها بملحقاتها .
منذ تسلم وظيفته بعد طول اشتياق .. هداه أحد السماسرة إلى هذه الحجرة . فوق سطح عمارة من خمسة أدوار كل دور من شقتين كبيرتين . ونظرا لأن دورة المياه والمطبخ ملحقان بالحجرة ومتصلان من الداخل . فقد رحب بها كثيراً أولأ الإيجار مناسب وفى مقدوره . وثانيا لأنه سيكون فى حالة استقلال تام . وهو ما كان يتمناه . فمنذ حضر من قريته للمدينة ملتحقا بمدارسها حتى انتهي من دراسته الجامعية وهو يعيش مع زملائه من قريته وكثيراً ما كانت تحدث مشاكل بينهم تؤثر بشكل كبير على ذويهم فى القرية . لهذا كان حريصا على أن يعيش مستقلا فى مسكنه . هذا بالإضافة لكونه محبا للانفراد بنفسه . حيث يحلو له أن يقرأ .. يسمع شيئا من الموسيقى .. وأحيانا يستلقى على الفراش مغمضا عينيه .. تاركاً لخياله العنان فيذهب به كل مذهب . ثم يعود به ثانية إلى أرض الواقع بعد أن يحقق لنفسه شيئا من المتعة الذهنية .. والسعادة المؤقتة .
طال انتظاره .. ولم ترصد أجهزة التنصت لديه أي بادرة لصعودها . لابد ان أمرا ما قد حدث .. أيعقل أن يمضى اليوم بكامله دون أن تطعم الطيور ؟ أم ترى أنها قامت بذلك فى الصباح الباكر قبل حضوره ؟ أيمكن هذا ؟ أنها بذلك تكون متعمدة عدم رؤيتي .. تتهرب مني .. أيمكن أن تفعل ذلك ؟!
بعد حضوره من العمل .. أول يوم لسكناه .. أخذ يمد حبالاً لنشر الغسيل أمام مسكنه .. كان بملابسه الداخلية .. ظانا أنه المسيطر والمالك الوحيد لسطح العمارة .. ليخرجه من أنهماكه صوت نحنحة رقيقة . آفاق إلى نفسه ناظراً لمصدر الصوت .. لتقع عيناه على وجه صبوح .. جميل .. هادئ فى دعة .. مستكين على استحياء فأخذ بجمالها .. وأخذ يرنو إليها متأملاً قوامها الرقيق .. وصدرها الناهد .. ناسيا ملبسه .. حتى انحنت أمامه وفتحت باب العشة ودخلت وأغلقت عليها . ظل مشدوها .. لحظات .. تنبه بعدها لنفسه وعندما أدرك حقيقة مظهره .. دخل حجرته .. وارتدي جلبابه وعاد لإكمال عمله .. مترصداً خروجها.. الذي لم يمض وقت طويل عليه .. حتى انتهت من عملها وأغلقت الباب خلفها .. وقطعت السطح فى خطوات هادئة متزنة نازلة إلى شقتها .
لم تكن المرة الأولى التى يرى فيها فتاة جميلة بالتأكيد فطول فترة أقامتهم وهم طلبة بالمدينة وهم محط أنظار فتيات كل منطقة يقطنون فيها . وخاصة لو كان لأصحاب البيت الذى يسكنونه فتيات فى سنهم أو أقل منهم . وكثيرا ما كانت تنتهي دراسة أحدهم وهو مرتبط بواحدة.
أما من بنات المنطقة السكنية .. أو من بنات أصحاب البيوت . إلا أن هذه الفتاة شئ آخر .. ولم يدرك ذلك إلا بمرور الأيام .. حيث كانت تصعد وتهبط دون أن تحاول جذب انتباهه .. أو لفت نظره إليها .. ومن جانبه كان يترصد وقت صعودها الذى حدده بين الثالثة والرابعة عصرا .. وفهم من ذلك أنه بعد تناولهم وجبة الغداء تصعد بما تبقى من غدائهم للطيور .. وعليه كان خلال هذه الساعة يتعمد الجلوس أمام باب الحجرة .. متصنعاً قراءة الجريدة .. مرة .. نشر الغسيل .. مرة ثانية .. نظافة السطح أمام مسكنه ثالثة وهكذا .. حتى تحضر .. ويشبع عينيه بالنظر إليها .. و يمني النفس وهو يتطلع نحوها .. وبعدما مرت أيام .. وحدث شئ من التعود .. عليه بالنسبة لها .. صعدت يوما وهو جالس وقبل دخولها إلى عشة الدواجن صامتة كالعادة .
استوقفها قائلا :
-السلام عليكم ورحمة الله . قالها بصوت يسمعها أياه. توقفت .. والتفتت إليه .. وبعد لحظات صمت قالت له .
- السلام عليكم .
- أيوه كده .. لقد أصبح من حقى عليك أن تلقى إلى بالتحية وأن أردها عليك بأحسن منها .. أقصد كجارك .
-صدقت . ودخلت عشتها . وترصدها وهي خارجة .
وعندما وجدته جالسا يرنو إليها .. ارتسم على وجهها شبح ابتسامة . قابلها بابتسامة واسعة . وقالت وهي تسرع الخطو .
-سلام .
-أراك غداً على خير .
وكانت البداية .. سلامات .. كلمات عابرة .. ثم أحاديث خفيفة .. فأخرى طويلة .. حكت له أنها الأبنة الوحيدة لوالديها .. ووالدها بالمعاش حيث كان يعمل موظفا بالشهر العقارى ووالدتها ربة منزل .. وسبق لهاالزواج من أبن خال لها.. إلا أنه كان عاجزاً عن الحياة الزوجية .. وبعد مضى ثلاث سنوات طلبت منه الطلاق بعدما فقدت قدرتها على الاستمرار معه بالرغم من أن ذلك تسبب فى غضب الأهل من ا لجانبين من بعضهما بعضا . ولأنها كانت آثيرة عند والدها فقد أصابته جلطة بعد طلاقها لإحساسه بالذنب لأنه كان السبب وراء هذه الزيجة .. ولم يشف تماما حيث مازال جانبه الأيسر شبه مشلول .. ووالدتها من بدانتها لا تتحرك كثيراً .. وعلى ذلك فهي التى ترعاهما . وكأن العناية الإلهية دبرت طلاقها لأجل أن ترعى والديها . وأنها صرفت النظر تماما عن فكرة الزواج لأجل ذلك . إلا أنها لا تنكر .. أنها منذ رأته .. تحرك شئ ما بداخلها .. قاومته كثيرا فى البداية .. وحاولت تغيير موعد صعودها إلى السطح ليكون أثناء تواجده فى العمل .. إلا أنها لا تدري لماذا عادت إلى وضعها السابق لعل الله يريد لهما أمرا .. لا تعرف كيف ؟ ولا متى ؟
(2)
ازداد تعلقا بها .. وحرصا على لقياها والحديث معها .. فطالت وقفاتهما معا على السطح . طلب منها لقياها بالخارج فرفضت بشدة .. طلب منها يوماً ممطرا الدخول معه للحجرة اتقاءً للمطر .. فرمقته بنظرات حادة وغادرته فأسرع ممسكا بيدها ومقسماً أنه لم يكن يقصد شيئا إلا اتقاء المطر . وكبرت لحظتها فى عينيه وقلبه وسلم لها مقاليد أمره وأشفقت عليه من أنه يعود من عمله لا يجد لقمة يقتات بها وإنما عليه أن يعد طعامه وهو متعب . فطلبت منه ترك مفتاح الحجرة فى مكان اتفقا عليه . مشترطة عليه عدم الحضور إلى المنزل فترة الصباح وحتى موعد حضوره . على أن تحضر هي وتنظفها وتعد له الطعام.. على أن يحضر لها الخضر ليلا أو الصباح الباكر ويتركه بالحجرة . حتى إذا عاد من عمله وجد الغداء معدا على المنضدة .ومغطي بأوراق الصحف وساخناً كأنما أعدته من لحظات . وطعام العشاء معدا بمكان آخر بالمطبخ . فوجد فى ذلك سعادة ما بعدها سعادة . وأصبحت حياته منظمة وهنية .. واعتاد على ذلك .
وذات يوم أحس وهو فى العمل بوعكة صحية . فأستأذن وعاد إلى بيته . وعندما صعد إلى السطح وجد فرش حجرته معرضاً للشمس والباب والنوافذ مفتوحة وهي منحنية تمسح الأرضية .. شهقت وأسرعت إلى دورة المياه وأغلقت عليها الباب صارخة من ورائه .
-أهذا ما اتفقنا عليه .
-والله ما كنت أقصد شيئا .. غير أني أحسست بالمرض وأردت أن أرتاح قليلا ..
- خير .. سلامتك ..
- حرارتي مرتفعة وأشعر بدوخة .
- أنتظر قليلا سأرتدي ملابسي وأخرج لك .
وبعد لحظات خرجت عليه بكامل ملابسها .. مدت يدها وتحسست جبينه .. أجلسته على مقعد .. وفى لحظات كانت قد أدخلت الفراش واعدته له وطلبت منه الرقاد بعد أن بدل ثيابه . وأعدت له ليموناً دافئا وأحضرت له دواء من صيدلية قريبة . وتركت له غداءه .. كالمعتاد .. وطلبت منه النوم قليلا .. متمنية له العافية واعدة إياه بالمرور عليه ليلا للاطمئنان .
(3)
سرى حبها فى عروقه ممزوجاً بدمائه .. أصبحت جزءا منه عضوا مهما من أعضاء جسمه .. إذا نظرت إليه عرفت ماذا به ؟ وماذا يريد أن يقول . وإذا غابت عنه أحس بخواء وفراغ يشمله ويكدر عليه صفو حياته .
حتى أصبح وقت الانصراف من العمل أسعد أوقاته ..
وطريقه للعودة يقطعه مهرولا .. حتى يشعر أنه بجوارها .. حتى ولو لم يرها فكفاه أحساسه أنها بالقرب منه .. يتنفس الهواء الذى تتنفسه .. فماذا يبغي أكثر من ذلك من أي فتاة لتشاركه أحلامه ؟ ماذا ينقصها .. تعليمها المتوسط؟! لا مشكلة فى ذلك ثم أنه لا يريد منها العمل يكفيهما رابته .. وما يجود عليه الأهل بالقرية . فوالده لديه من الأرض عشرة أفدنة يزرعها وأخواه الأخران اللذان اختارا أن يستمرا على جهلهما ويزرعا الأرض مع الوالد وأختاه اللتان تزوجتا بنفس القرية .. لكن ما أقلق مضجعه هو سابق زواجها . فهل يرضى بذلك أهله . قرر أن يسافر لهم ولن يعود إلا بعد الحصول على موافقتهما بأي شكل . وأرجأ الأمر إلى أجازة عيد الأضحى حيث لم يتبق عنها إلا أسبوع .. وكما اعتاد فلابد من قضاء العيد بين الأهل .
صارحها بما يجول بخاطره .. وبما يخشاه من احتمال اعتراض أهله .. ساعتها .. هربت بعينيها إلى الأرض . . واكتسى وجهها بعلامات الانكسار .
مد يده برفق محتضنا بها أسفل وجهها .. رافعاً راسها .. قائلا :
- لا تخشى شيئا .. لن أعود إلا لك .. وأتمني على الله ألا أرى هذه النظرة في عينيك مرة ثانية حتى ولو آخر يوم في عمري .
- تعود لي بالسلامة .
- إن شاء الله لو اتفقنا سوف أعود ثالث أيام العيد لنقضيه معا فهمت مراده . وتمنت له عيدا سعيداً .. وعودة سريعة .
(4)
وجد من والده وأخواته ممانعة شديدة ..ووقفت والدته على الحياد . خشية من انكسار قلب ابنها أما أختاه فقد وقفتا بجانبه بشده فطالما أنها مازالت فتاة .. فما هي المشكلة .. كما أنه لا ذنب لها فى أي شئ .. وطالما قلب أخيهم يريدها فماذا يريدون ؟ فأخذت الأم تميل إلى قول البنات . وظل الوالد والأخوة على موقفهم ..وخاصة أن الوالد كانت عينه على أحدى بنات الجيران .. وأهلها أناس ميسورو الحال .
بنت البندر سوف تربطه بها وبالبندر فأراد أن يضع حدا للسجال وحسما للأمر فقا ل :
-يا والدي .. أنا الذى سأتزوج .. ومن حقى اختيار شريكة حياتي .. ثم أني بحكم العمل وباب الرزق مرتبط بالبندر وليس بحكم الزواج فقط .كا أننى لست على استعداد للزواج من غيرها مهما كان شأنها .
نزل قوله على قلب والده وأخواته كالصاعقة .. وبردا وسلاما على قلب أمه وأختيه . وساد الصمت بينهم .
لحظات طال أمدها .. فلم يجد بدا من الانصراف من بينهم تاركا لهم حرية الحديث والنقاش فى غيابه لعل أمه وأختيه ينجحان فى التغلب على ممانعة الوالد والأخين .
وفى صباح اليوم التالى كما وعد محبوبته غادر القرية عائدا إلى المدينة بعد اتفاق مع الوالد على أن يترك الأمر بعض الوقت واتفقا بعد إلحاح منه على عشرة أيام ليراود كل منهما نفسه ويراجعها .
طالت جلسته ولم تصعد ؟ ما بالها ؟! ألم تشعر بوجوده بعد أم أنها بالخارج ؟ أنسيت ما تواعدا عليه ؟! أم أصابها مكروه منعها ؟
ساد الشفق الأحمر على زرقة السماء .. وأخذت الشمس تتواري خلف ستائر الليل الزاحفة . نسمة رقيقة .. حانية تسود ذلك المساء .. قلق فى مجلسه .. تارة غاديا رائحا .. وأخرى يقترب من نهاية السلم ناظراً لأسفل لعله يراها صاعدة .
وأفكار تتصارع فى رأسه .. تراوده عن أسباب غيبتها غير المتوقعة .. وقلبه يضطرب وتتسارع دقاته ... ما الذى جرى ؟! أتراها توقعت رفض والدي وأرادت أن تريحني من لحظة المواجهة ؟! أهل هذا معقول ؟! ولماذا رغم كل ما بيننا تتوقع أن أتخلى عنها مهما كان الأمر ؟ حتى ولو رفض الأهل ؟ هل أنا قاصرا عن الزواج منها بالرغم منهم ؟ لعلها أرادت الانسحاب من حياتي حتى تجنبني الصدام مع أهلى ؟ ماذا جرى ؟! وماذا أفعل ؟
وقفت لحظات أمام باب الحجرة عاجزاً عن التفكير مشلول الإرادة .
أكاد أجن .. لا أتصور كيف سيمضى بى الليل دون أن أراها ؟ كيف يغمض لي جفن ؟ وأنا ممدد على الفراش الذي هيأته لي ؟ لابد من تصرف ما .. لابد أن أتحرك .. مالي أقف هكذا كالمشلول ؟! أين ذهبت إرادتي ؟ بدون أدني تدبر .. حتى لم يعط لنفسه الفرصة لغلق باب الحجرة .. أو تسوية هندامه أو تمشيط شعر رأسه .. أخذ يهبط درجات السلم مسرعا .. حتى إذا وقف أمام باب شقتها .. وضع يده على جرس الباب الذي أخذ يصلصل زاعقا بالداخل . ومن وراء زجاج شراع الباب يري خيالها يقترب .. حتى إذا فتح الباب .. ألقى بنفسه بين ذراعيها ..وصوته يتهدج .
- أين أنت ؟! انتظرك من الصباح . أهل هذا معقول ؟!
-خشيت .. أن ..
وضع يده على فمها .. أسكتها.
- أتخشى شيئا وأنا حي على وجه الأرض .
ضمته إلى صدرها أكثر بعد أن أغلقت الباب خلفه .
- أتاها صوت والدتها من الداخل .
- من بالباب ؟
-واحد ليس بغريب يا أمي ؟
الجو .. حار .. خانق
الموكب طويل .. مزدحم .. يتحامل فى سيره على رجلين يتأبطان ذراعيه . لا يدرى على وجه اليقين كيف يسير ؟
كيف يصلب طوله بينهما ؟ أو حتى كيف يتنفس الهواء!!
جفت الدموع فى مقلتيه .. تجمدت أحاسيسه تماما .. لا يعرف على وجه الدقة ما هي أحاسيسه من شدة مابه من أسى .
ابنته الصغرى .. عفاف .. القطعة الكبرى من قلبه .. نبع الحنان الذي أغدقت به عليه .. يسير فى جنازتها ..ومن الذى تسبب فى موتها ؟ .. هو .. أبوها .. الشيخ الأزهري .. الحاصل على العالمية ؟! هو الذى قتلها .
نعم .. أنا الذى قتلتها .. بصمتي .. بعجزى على أن أقول لا .. لن تتزوجى من أخيك !!
وهل كان باستطاعتي أن أقولها ؟! هل كان بمقدورى أن أعترف بذنبي بعد خمس وعشرين سنة .. سترني الله خلالها !! وهل كان بمقدور أي إنسان غيرى .. لو كان مكاني .. أن يفعلها ويقول لا ؟! يالها من كلمة سهلة على اللسان ثقيلة المعني .. لا واحدة كانت كافية لانهاء ما أنا فيه لكن لم يكن بمقدورى أن أقولها . لأنها كانت ستفتح أبواب الجحيم علىَّ !! لماذا ؟! وما السبب ؟! وغيرها من الأسئلة وساعتها لم أكن لأقدر على الإجابة على أى سؤال منها .
لم يكن بقادر على رفع عينيه عن الأرض .. وكيف يرفعها بعد ما فعل ؟! .. كيف يرفع رأسه وقد حكم على نفسه بأن يحنيها للريح لكي تمر ؟! ولم تمر الريح إلا وقد اقتلعت منه قلبه .
(2)
منذ تزوج جارهم الحاج شعبان من ست الدار .. وحياته فى جحيم قبل أن يتحابا .. وبعد أن تحابا .
فقد كان يعرفها قبل أن تتزوج .. وكم تمناها زوجة له . لكن جمالها كان يباعد بينها وبينه .. فقد كان لا يقدر على مهرها الذى قدره أهلها البسطاء . كما أنه كان فى مرحلة التعليم الثانوي الأزهرى . ولم يخطر على باله أن يطلب من أهله الزواج وهو مازال أمامه الكثير فقد كانت أحلامه كبيرة فى نيل الشهادة " العالمية " كما كان يسميها أبناء جيله . حقا .. الدار بالدار مع زوجها . لكن عريسها ورث عن أبيه عشرة أفدنة وداراً كبيرة ومالاً وفيراً وخمس رؤوس ماشية وحده . لأن أباه لم ينجب سواه . وهو الثاني بين خمسة أخوة صبيان وثلاث بنات .
وحده الذى رغب فى التعليم وسار فى دربه .
عندما عرف برغبة الحاج شعبان بالزواج منها .. قنع فى داخله بالإحساس بوجودها بالقرب منه .. احتراماً للجيرة .. ورضى بذلك نفسا .. إلا أنه ما أن رآها على سطح دارها أول مرة . والسطحان متجاوران .. لا يفصل بينهما فاصل .. حيث كان يعيش بمفرده فى حجرة مقامة على سطح بيتهم .. ليتمكن من المذاكرة وحده دون ازعاج . ما إن رآها فى أيامها الأولى وهي ترتدي ثوباً خفيفا .. وقد تركت شعرها الأسود الفاحم ينساب على جانبى وجهها القمرى .. حتى تمرد بداخله ما كان ساكنا .. وثار المارد فى القمقم . وألهبت نار الرغبة الجامحة رأسه .
وبمرور الأيام .. وكثرة تواجدها على السطح .. الموجود به بشكل دائم وخاصة أمام حجرته للمذاكرة فى نصف النهار بعد توقف الدراسة بالمعهد تأهبا للامتحانات بدأ كل منهما فى التعود على وجود الآخر . وشيئا فشيئا أخذا يتبادلان النظرات والسلامات والتحيات .
ومضى على ذلك ما يقرب من العام . كان خلاله قد حصل على الثانوية والتحق بالجامعة الأزهرية بالقاهرة . وعندما أعد نفسه للسفر .. منى نفسه بأن يحادثها .. يودعها..تعمد مراقبتها حتى وجدها عصر يوم بالقرب من سطحهم، واقترب منها محاذرا أن يراه أحد من الجيران .. وألقى عليها تحية المساء .. بصوت خافت . وأخبرها أنه مسافر للقاهرة ويتمني أن تطلب منه أي شئ يحضره لها عند حضوره في إجازة نصف العام . أخذت تتحدث معه وتوصيه بأن يأخذ باله من نفسه ويذاكر جيداً ويحرص على صحته.
- وخذ بالك من بنات مصر وستاتها .
أُخذ من عبارتها هذه .. صمت لحظات . هب فيه المارد داخله .. أن اهتبل الفرصة .
-هما بنات مصر .. ييجوا حاجه .. بجانبك .
- ايه .. يا شيخ سالم .
- دا جمالك ده .. لو أتوزع على مصر كلها .. يغرقها ويفيض منه كمان . انتشت من كلماته .. وسعدت بها .. أسبلت عينيها حياءً ودلالاً .. فبدت أكثر جمالاً واشراقا وارتسمت على شفتيها ابتسامة ساحرة . واهتبل الفرصة .
نفسى تطلبى مني حاجه .. أجيبها لك تعبر عن تقديرى واعجابى . بعد صمت لحظات أجابت :
-ترجع لى بالسلامة . وأخذت فى الانصراف وهي تقول:
-أشوفك بخير .. الدنيا .. ليلت .. وكمان حد يشوفنا .
-أشوفك بخير ..وأتمني أشوفك صباح باكر قبل سفرى .
-ها تسافر أمتي .
-بعد الظهر .
-إن شاء الله هاجي أسلم عليك .
طار .. امتلأ سعادة .. لم يقدر على كتم ما اعتمر داخله . تسامي .. تبخر فى الهواء .. كان يقفز على السلم هابطاً حتى كان على الأرض فى قفزتين .. أفزعتا أفراد الأسرة المتواجدين فى وسط الدار عندما وجدوه أمامهم فجأة . وفسر لهم ذلك بأنه كاد أن يقع .
(3)
عندما عاد فى إجازة منتصف عامه الجامعي الأول .. أحضر لها زجاجة عطر من الحسين أخفاها بحجرته حتى لا يراها أحد من أسرته . وترقبها عصر يوم حضوره على السطح ..حتى إذا رآها .. أقبلا على بعضهما يسلمان .
أمسك بيدها طويلا في يده .. وأخذ يتأمل جمال وجهها .. وهو يرنو إليها مأخوذا ..حتى إذا أفاق قال :
- وحشتيني قوى .
-أنت أكتر .
-احضرت لك زجاجة عطر من الحسين ، بعد لحظات تفكير :
-أنت سهران شوية الليلة . والا جاي تعبان .
-لا .. سهران .
-خلاص . بعد العشاء بشوية كده أما الناس تنام هاجي أخذها منك .. سيب الباب موارب حتى لا اضطر إلى الخبط عليك .
-فى انتظارك للفجر .
وسحبت يدها من كفه .. وانسلت إلى أسفل بيتها . وقف لحظات غير مصدق لما سمعه .
(4)
عندما دخلت عليه الحجرة . وجدته راقداً على السرير محملقا فى السقف .. متأهبا ومترقبا لحضورها . وثب واقفاًً وأغلق الباب خلفها .. خفف من ضوء اللمبة كعادته عندما يكون نائماً .. فعل ذلك وهو يتحرك كالمذهول .. المسحور .. الحالم .. كل ذلك فى شخص واحد .. ثم وقف قبالتها.. إلتقت عيونهما .. نظر إليها يتأملها .. ترتدي قميص نوم شفاف يبين منه أكثر مما يستر .
عندما رأي جسدها لأول مرة .. تصور أن فنانا بارعا أتقن صنعه .. صدر ناهد ..ممتلئ ..نابض .. زاعق بكل معاني الرغبة فى الارتواء .. وسط كقناة ضيقة تؤدي إلى ردفين ممتلئين ينسحب منهما ساقان مصبوبان .. ملفوفتان واعدتان بمتعة حقيقية عند الارتواء . وقفا لحظات كل منهما يتأمل الآخر .. يفصل بينهما خطوة .. ثم فجأة ودون ترتيب مسبق فتح كل منهما ذراعيه للآخر .. ليرتمى كل منهما فى حضن صاحبه ..ونهلا من شبابهما ماروى شوق كل منهما للمتعة الحقيقية .. ونسيا نفسيهما تماما .. وحدثته خلال لحظات الراحة عن حياتها مع زوجها الذى لم تحس معه بالشبع منذ تزوجا وأفضت له بعجزه عن الإنجاب منها . وحكي لها عن حياته فى القاهرة وكيف كانت فى قلبه ووجدانه دائما.. حتى أفاقا على أذان الفجر يأتي إلى مسامعهما من المسجد القريب .. فأسرعت إلى بيتها خشية استيقاظ زوجها واعدة اياه بتكرار ليالى الارتواء ..وهب إلى المسجد بتلقائية اعتاد عليها عند سماع كل أذان ..حاملا معه منشفة ليستحم ويصلى . وهو عائد بعد الصلاة .. وقد أخذت خيوط النهار تكسى وجه الكون وترحل عنه خيوط الليل السوداء .. بدأت .. أثار النشوة ترحل عن وجدانه ويصفو ذهنه رويدا رويدا .. ماذا فعلت ؟! وكيف انسقت إلى ذلك دون أي مقاومة ؟! وأنا الأزهرى حافظ القرآن بين صدرى وعقلى ؟! لم ينم يومها حتى فرغ من صلاة العصر .. عندما وضع رأسه على الوسادة وطنين الأسئلة التى تبحث عن إجابة يطرد النوم من أجفانه .. أفاق على صوت المؤذن لصلاة المغرب مذعوراً ..
وهو يغادر حجرته .. رنا إلى سطح منزلها .. ولم يرها .. ولم يعرف هل صعدت عصراً لرؤيته كالعادة أم لا ..
واستلقى على الفراش منتظراً إياها بعد العشاء .. ولم تحضر ليلتها وفى اليوم التالى .. فتح باب الحجرة وهو يستذكر دروسه .. حتى يرى سطح منزلها جيدا مترقبا إياها . وقبل المغرب بقليل .. صعدت إليه .. واشارت بيدها اشارة خفيفة غير ملحوظة . مرسلة إليه السلام .. وابتسمت ابتسامة واعدة ..وأومأت ايماءة بسيطة تعني أنها ستحضر له الليلة .. فأخذ يحصى الثواني والدقائق حتى دخلت عليه من الباب بين يديها آنية من أواني الطعام . وترتدي قميصا أكثر إغراءً من السابق . وجلست وسط الحجرة على الحصيرة التى تتوسطها وتربعت ونادته بدلال :
تعال يا خويا رم عظمك .. أنت تعبان فى المذاكرة .
وضحكت بإغراء ، وأكملت :
- وتعبينك معانا .
وكشفت عن فرخة محمرة .. وجوز حمام محشى .. وأخذت تقطع اللحم وتلقمه .
- الله .. وانت ما بتكليش ليه .
- أنا اتعشيت يا خويا معاه .. وحركت شفتيها فى امتعاض.
- ما كنت له أبدا .. وما كان لك.
- النصيب .. هنعمل إيه للنصيب يا خويا .. ثم يعني ما أحنا أهوه لك أكثر منه ..
- ايه أكتر منه ازاي .
- يا خويا .. الليلة السابقة .. شبعت منك أكتر من سنتين جواز عشتهم معاه .
حتى إذا فرغا من طعامهما .. بدآ فى نوع آخر من الإشباع .
(5)
فى آخر ليلة.. من عطلة نصف العام .. عندما حضرت ومعها العشاء كما عودته .. وبعد أن فرغا من تناوله ..مدت يدها فى صدرها وأخرجت له كبشة من الأوراق النقدية ..وضعتها فى جيب جلبابه الذى عند صدره ..وهي تقول:
-كل يا خويا فى الغربة ..وما تحرمش نفسك من حاجه وانا من ناحيتي مش هابخل عليك بأي حاجه .. عايزاك ترجع ناجح .. وكمان مالى هدومك كده مش هافتان وخاسس ذى المره دي .
- تعطيني فلوس ؟! .. كمان ؟!
- إذا كنت بعطيك نفسى ..هابخل عليك بأي حاجة أملكها . أنت كل دنيتي والخير كتير والحمد لله .. فيها إيه أما ينوبك منه جانب .
أعطاها ليلتها كما لم يعطها من قبل .. وارتوى حنينا يكفيه فترة غربته القادمة .
وغادرها تاركاً معها كل جوارحه .. فقد ملكت منه كل شئ حتى أصبح يفتقدها عندما تغيب عنه . بشكل لم يشعر به من قبل .. أصبحت كما لو كانت دمه الذى يجرى فى عروقه .. ينسحب منه عندما تغيب عنه .. ويجرى فى جسده فتجرى فيه الحياة عندما يراها . وعمل بوصيتها طوال غربته .. ذاكر جيدا وأكل جيدا وعاد لها ناجحا .. ممتلئ الجسم..نابضا بالشباب والحيوية .. يملأ العين .. ولشد ما كانت دهشته .. عندما أقدمت عليه أول ليله .. ولاحظ امتلاء بطنها بعض الشئ .. لدرجة لم تخف عنه أول ما وقعت عليها عيناه .
-ايه ده ووضع يده على بطنها . ابتست فى حبور ودلال .
-ابننا .
-ابننا ؟! وقد فغر فاه .
-أيوه يا خويا.. ابننا .. أمال يعني هايكون ابن الجيران.
-أهكذا .. وبكل بساطة تقولينها .. ازاي يا ست الدار سمحت لنفسك تحبلى .
-وفيها ايه ياخويا .. الراجل نفسه فى ولد وفرح قوي .. فاكر أنه ابنه .
-يادي المصيبة .
ضربت بيدها على صدرها ..
-مصيبة ايه يا سالم .. بعد الشر ياخويا
- يا ست الدار ده الشر نفسه .. ازاي تحبلى مني .. وتخلى جوزك يربى ابن مش ابنه .
-هو يعني عرف يجيب زيه ياخويا .. اسكت .. اسكت ده فرح بالحمل قوى .
-فاكره من صلبه .. وصمت شارداً .. تمدد على الفراش .. جلست بجواره مدت يدها تدعك بها صدره .. تناوشه ..ظل فى شروده وصمته .
كيف حدث ذلك .. لماذا لم أحتط لهذا الموقف .. أيكون لى ابن زنا .. من صلبى أنا ويتكفل به رجل غيرى .. يرعاه ويتربى فى عزه ..ويقول له يا أبى .. وأحرم أنا من ذلك . كيف أواجه به ربى .. والناس .
آخرتك سوده يا سالم .. ثم ما هو الموقف لو خرج الواد للدنيا وكان شبيها بى ماذا سيقول الناس ..وماذا سيقول الرجل الذى يربيه .. ألن يشك فى الأمر . آه .. يا سالم .. يا أزهرى .. أنت الذى تفعلها وكيف تعظ الناس فى المسجد وأنت تخطب يوم الجمعة . أتقول لهم لا تزنوا .. وأنت الزاني.. ولك ابن زنا ومن زوجة جارك الذى أوصى النبى الكريم عليه حتى كاد أن يورثه .خسرت أخرتك يا سالم واللى كان كان .
- إزاي بس ياست الدار .. سبتي نفسك تكملى الحمل ..كنتى نزلتيه .. خلصتى منه .
-واخلص منه ازاي وهو منك .. أنت كل حياتي .. راجلى اللى بحبه وعايشه علشانه .
-وزوجك .. أمام الله وأمام الناس .
-أهو ربنا عارف كل حاجه . وهو كان يعني زوج ولا كان زوج ده يا خويا زوج بالاسم بس .. ومن يوم ما لمستني .. مالمسنيش خالص .. مابقدرش اديله نفسى . وهو كمان مافيش فيه . الحق يا خويا هو كويس فى كل حاجه .. ما بيعزش علىَّ حاجه .. لكن فى العملية دي .. مالوش .. مالوش خالص . وأنا مابقدرش .. ما بقدرش أصبر .. يادوب بالعافية بقدر أصبر على بعدك .. والنبى يا خويا ومن نبى النبى لولا اخلاصى لك لكنت كل ليلة فى حضن واحد تاني . عند ذلك صرخ فيها:
-كنت قتلتك بإيدي دي . ومدها أمامها فى عنف . دا أنا أقطع الإيد اللى تتمد ناحيتك .
-طب يا خويا لما أنت بتحبني قوى كده .. وتغيرعلى زعلان كده ليه قوى .
-يا وليه ده حرام هايكون ابن حرام .
-لا .. هايكون ابني وابنك .
لم يعرف كيف ينقل لها ما يدور بداخله . لكن على ما يبدو أنها فكرت فى الأمر بطريقتها ..وأقنعت نفسها بما رأته مناسبا لفهمها وقناعتها الشخصية . لم تتبق لديه الرغبة فيها تلك الليلة بعدما دار بينهما .. وما اعتمل داخله من أفكار وهموم . إلا أنه أمام إلحاحها للارتواء جاوبها لمرة واحدة معللاً ذلك بتعبه من السفر . فغادرته وهي حزينة بعض الشئ . وهي تتوعده فى دلال بأنها لن تترك حقها الليلة القادمة .. وستخلص منه اللى فات .أخذ يتقلب فى فراشه .. كما لو كان يتقلب على جمر النار ..
وأخذت الأفكار السوداء تتوارد على خاطره .. تطن فى رأسه ..تعتمل فى صدره .. حتى ضاق صدره .. سخنت رأسه.. أخذ يضرب بيده على رأسه وهو يصرخ لنفسه ..
لماذا سرت فى هذا الطريق .. وجاوبتها .. ؟؟ لماذا لم أقاوم؟؟ أين كان ضميرى ؟؟ عقلى ؟؟ تركت الشيطان يتملكني ليه ياربى .
لا تلوم إلا نفسك .
أنت الذى كنت ترغب فيها ..وسعيت إليها ..وعليك وحدك الوزر .. لا .. هي اللى شيطانة جابت رجلى .. لو كانت قاومت .. أو حتى قالت لا .. أو حتى تمنعت شوية .. يمكن كان حصل فى الأمور .. أمور .. لكن أهو ده اللى حصل ..واللى كان .. وعليك أن تحدد الآن هل تستمر .. أم تقف عند هذا الحد ..كيف ؟! هل أقدر على ذلك .. وقد أصبحت تملأ على حياتي .. نومي وأحلامي .. ويقظتي دي أصبحت هي اللى بتصرف علىَّ بعد ما الحالة تدهورت مع أبويا .. ويادوب اللى بيبعته ما يكفيش عيش حاف ..كيف سأكمل تعليمي إذا توقفت وابتعدت عنها ؟
عندما سمع أذان الفجر .. خرج للصلاة بتلقائية.. وخشع فى صلاته بقوة.. سائلا الله الهداية وحاول بعدها النوم .. لكن الجفاء بينهما كان شديدا .. وظل يقلب الأمر على جميع الوجوه .. وعندما لم يجد لنفسه مخرجاً فضل أن يترك الأمور على ماهي عليه . وفى المساء أعطاها كما تعود ..ونهل منها ما أشبعه .. ونسى ما كان يقلق عليه مضجعه .. سائلا الله أن يديم عليهما الستر .
وظلا على لقاءاتهما الليلية المعتادة .. كما لو كانا زوجين لا ينغص عليهما أحد . وأخر سفره فى بداية العام الدراسى الثاني له ..حتى كحل عينيه برؤية ابنه وزارته ليلة سفره .. ونفحته ما يكفيه وتمنت له النجاح والعودة لها سالما على ألا يطول بعاده لحرمانها منه طوال مدة الولادة والنفاس .
(6)
بعد عودته للمدينة ..كان هناك اختلاف بينا فى داخله عما كان قبلا . لعله تأنيب الضمير ؟! إحساس بالمسئولية تجاه الوليد ؟!
لم يدر على وجه التحديد ما به ؟! أو ماذا يريد ؟!
هل يستمر فى حبه وهواه الجامح .. الذى جرف كل ما أمامه ؟! أم يعود لنفسه .. ويتوب إلى ربه وينسى ذنبه ؟! .
تارة يجنح به هواه ..وتارة أخرى يعود إلى رشده ويفيق إلى نفسه ويرغب فى التوبة .
ظل هكذا أيامه الأولى نهبا لصراع داخلى . لم يجد فى نفسه المقدرة على حسمه .
إلا أن شعورا داخليا تملكه . بأن حملاً ثقيلاً قد اعتلى كاهله . لدرجة أصبحت مشيته فيها انحناء ظاهر .. وعيناه دائما فى الأرض ..كأنما تبحثان عن مخرج له .
ورويداً .. رويدا وجد نفسه يندمج فى الحياة الجامعية من جديد .. وينهمك فى دراسته ومذاكرته وبين الحين والآخر.. يهفو قلبه إليها .. وإلى وليدها .. أفرغ كل همه فى الدراسة كالمعتاد . وعندما عاد إليها فى عطلة نصف العام الدراسي . لفت نظرها بضرورة الحيطة من الحمل مرة ثانية .. إلا أنها لفتت نظره أنها ترضع أبنها بشكل طبيعي ولا داعي لحملان الهم حيث أن المرأة طوال فترة الرضاعة لا تكون معرضة للحمل .
واستمرت حياتهما معا .. كما لو كانا زوجين سعيدين لا ينغص حياتهما شئ . حتى أنهي دراسته وعاد إلى القرية ليعمل إماما وخطيبا فى مسجدها .. وبعد أن استقرت له الحياة عدة أشهر .. إذ بوالده يفاتحه بضرورة زواجه .. وعندما فاتحها .. فوجئ بها تضرب صدرها بيدها ..
-ايه يا نور عيني .. تتزوج ..أمال احنا إيه .. وأنا .. وابنك .. والعشرة دي كلها تبقى ايه هو ده مش جواز برضه يا خويا والا إيه .
-يا ست الدار .. اهدي وفكرى الراجل عايزني أتجوز أمام الناس ..ويبقى لى زوجة وأولاد أمام ربنا والناس ..
صرخت به ..وهي تبكى وتولول :
-إيه يا سالم اللى أنت بتقوله ده . بعد السنين دي كلها جاي تقوللى اتجوز .. ومين يا أخويا إن شاء الله ؟ هاتلاقى اللى تحبك زيي أنا ؟ وأنا با أحب التراب اللى بتمشى عليه . هاتلاقى زيي أنا فين يا سالم ؟!
-والله .. أن جيتي للحق .. مش هلاقى التراب اللى بتمشى عليه ..لكن الموضوع عايز تفكير هادي ..حتى كمان ما نديش لحد فرصة أنه يشك فى حاجه .. ده أنا باحمد ربنا أن الواد واخد منك أكثر مني .. وطلع شبهك وربنا سترها معانا وأهو الواد بقى عنده خمس سنين وربنا يخليه لينا وأنا برضه يعني ماهو جنبك يعني هاروح فين ما أنا هاكون تحت أمرك برضه . هي العشرة دي تهون علّيه برضه . بس لازم شكلنا أمام الناس يكون سليم . والحمد لله ربنا ساترها معانا لغاية دلوقتي مانجيش احنا بايدينا ندمرها ونخرب على نفسينا . فكرى بهدوء .. وخلى الطابق مستور وياستي والله ما أنا متجوز إلا اللى انت تختاريها لى .. أخذت تنصت إليه مذهولة وعندما وصل إلى هذا الحد فى حديثه أجهشت فى البكاء وأخذت تجرى خارجه من الحجره .
(7)
استكانت .. وسلمت للأمر الواقع .. واختارت له زوجته واتفقت معه على طريقة أخرى للقاء . فطالما ابنهما أصبح له من العمر خمسة أعوام .. طلبت من زوجها أن يعهد إليه بمسئولية تحفيظ الولد القرآن في البيت بالإضافة إلى تعليمه وتأهيله للالتحاق بالمعهد الديني ليشق طريق والده مما أتاح له الدخول والخروج عليها في البيت وفى أي وقت دون إحراج وخاصة أنهم جيران .
ورعي الولد بحماس شديد .. يتابعه فى دروسه ..غمره بكل حنان الأب ..وأسبغ عليه من كل المشاعر التى كان يختزنها بداخله لأمه .. ولابن يأتي له من صلبه . حتى إنه إذا مرض كان هو الذى يأخذه إلى الطبيب .. وفى الإجازات يصطحبه إلى المدينة .. وكان زوجها يعتبر ذلك جميلا كبيراً منه أن يهتم هكذا بوحيده ويرعاه . فكان يزداد حباً له ولا يريد له أن يبتعد عنه .. فكلما وجد نفسه خاليا من العمل .. يرسل له ابنه لإحضاره ليجلسا معا ويأكلا معا كأنه أخ له .. أو أحد أفراد الأسرة ، وعندما أقدم على الزواج قام الرجل .. برد الجميل الذى يراه فى عنقه له .. وكان عونا له فى كل شئ ..واعتبر زوجته الوافدة الجديدة ابنة له ..وكان عش الزوجية.. نفس الحجرة التى فوق السطح .
كما أنها أصبحت صديقة زوجته .. ودام الود واتصل .. واستمرت حياته الزوجية هادئة .. حتى حملت امرأته ووضعت له ولدا .. ثم ابنة وثانية حتى أصبح لديه من الأبناء خمسة .
ومرت الحياة هادئة .. رجل للإثنتين والولد يتقدم فى تعليمه حتى أصبح معيداً فى إحدي الكليات الجامعية . وذات يوم وهو جالس معهم فى بيتهم أخذ زوجها ينتقل من حديث إلى آخر ثم فاجأه بطلب :
-ايه رأيك يا مولانا .. أنا نفسى ومني عيني أجوز أحمد ابني من بنتك سعاد . أنا شايف الواد ميال لها . وانت عارف كل حاجة .. عننا وأنا مش عايز منك حاجه .. البنت دي لله فى الله أنا باحبها وعايزها لابني ..ومش هاعز عليها حاجة.
أسقط فى يدهما . لزما الصمت .. ألجمت المفاجأة لسانه. ماذا يقول للرجل . ووضعت وجهها فى الأرض تخفى مشاعرها .
-ايه ..سكت ليه .. خلاص السكوت علامة الرضا . مد إيدك نقرأ الفاتحة . واختطف الرجل يده وأخذ فى قراءة الفاتحة .
-يا حاج شعبان .. ايه ده اللى انت عملته . ده كلام يا راجل مش حتى أقول لأبويا وأهلى .
-يعني روحت بعيد يا شيخ ..تعالى معايا .. وأخذ بيده وذهبا إلى داره .ونادي على أبيه ثم جلس يعرض عليه الأمر . وفوجئ بأن أبيه يبدي الموافقة ويمد يده للرجل ليقرأ معه الفاتحة .
لم يستطع اعتراضا .وكيف يعترض ؟! الوالد ومستقبله طيب ومبشر .. وهم أهل وجيران ..ماذا يقول للناس معترضا .
تلاقيا ليلا فوق السطوح ..ومضت المقابلة صامتة أغلب الوقت . لم يجد مخرجا .. وعليه اتفقا أن يبديا الموافقة إلى أن يأمر الله بأمره .
وهو يهبط السلالم كاد أن ينكفئ على وجهه . دخل حجرة النوم وأغلق عليه الباب .. تمدد فى فراشه .. يحملق فى سقف الحجرة أحس بجسده يغلى من ارتفاع حرارته . وتوقف عقله تماما .
لم يدر كيف انزلق إلى هذا الموقف ؟! أهي ارادة الله للانتقام منه ؟! ألم يجد هذا الرجل سوى ابنتي أنا ؟! ليت أمره كان قد انكشف وعرف الناس به فى هذه الحالة كان فى مقدوره أن يصرخ به قائلا . لا . وبالفم المليان .
وماذا لو قالها الآن ؟! ويحدث مايحدث .
استكانة غريبة بداخله تدفعه دفعا لقبول الأمر الواقع . وفوران أصاب عقله . أن أرفض وليحدث ما يحدث .
عندما دخلت عليه زوجته . ادعي استغراقه فى النوم .. وعندما تمددت بجواره وتلامس جسداهما شعرت بسخونته الشديدة .
-مالك يا راجل .. جسدك سخن قوى . رد عليها بإعياء.
-أنا حاسس أن أخرتى قربت .
-ايه يا راجل الكلام ده .. يعني دي فرحتك بفاتحة ابنتك
-آه .. فرحتي .. ده أنا فرحان قوى .
(8)
بعد اتمام الزواج .. وجد نفسه زاهداً ..فى كل شئ حوله .. فجأة توقف عن لقاءاتهما معا .. تماما .. جافاه النوم أياما.. وليالٍ شارد الذهن دائما .. لم يدر كيف انساق إلى كل هذا الذى لم يكن فى حسبانه فى يوم من الأيام .
فى البداية مشيت وراء هواك .. وحبك لها لكن أن تزوج ابنتك لأخيها . ضد كل شرع وكل دين .. كيف تقبل هذا؟َ! وأكثر ما كان يؤلمه ويقلق مضجعه أنه لم يكن بقادر على أن يقول لا . أبعد كل هذه السنين يفضح سره مع هذه المرأة ؟! هل يعلن للناس .. يا عالم .. يا هوه أنا الشيخ خريج الأزهر .. إمام وخطيب جامع القرية .. زان وهذا ابني من الزنا ولا يجوز أن أزوجه من ابنتى ؟!
أن تكون فى موقف قادر على الحركة ..والتصرف فيه شئ وأن تكون عاجزاً حتى عن إعلان رأيك شئ مختلف تماما . سجون الدنيا كلها أرحم من هذا السجن . هموم الدنيا تراكمت عليه أطبقت على صدره .. حتى ضاق عن كل ما حوله .. وبكل ما حوله .. دائما منفردا .. وحيدا .. حتى هي .. عندما يراها عيناه فى عينيها ..تزوغان منه .. تذهب إلى بعيد عنه هي التى ما كانت ترفع عينيها عنه طالما كان موجودا حتى فى وجود الأقربين .. لعلها استوعبت المشكلة .. أم لأنها فهمت وأدركت كم يعاني من هذه الزيجة .
وفى يوم بينما هو جالس عندهم .. وحده .. حضرت إليه . وهمست له بأن ابنته حامل ..
كأن جبال الدنيا انهارت فوق رأسه . نظر إليها صامتا غير مصدق :
-بتقولي إيه .. حامل ..إزاي ؟
-أزاي أيه يا راجل .. هي مش امرأة زي أي امرأة مسيرها تحمل وتلد.
-أيوه .. لكن ..
-ايه يا خويا .. ده .. أيوه ..لكن .. لكن ايه يا خويا ..
أراد أن يترك المجلس ويخرج ..إلى أين لا يدرى المهم أن يخرج . هم من جلسته .. إعياء الدنيا كلها نزل عليه .. لم يستطع أن يصلب طوله .
-أقعد يا خويا .. قايم رايح فين .. مالك بعد الشر عليك.
-جوازة العيال قتلتني .. يا ست الدار .
صمتت .. لم تعرف بماذا تجيب ؟! وأدرك من صمتها أنها تدرك ما يعانيه .. تشعر بما يدور بداخله . أرادت أن تهون عليه الأمر ..
-يا خويا أهي غلطة . هو احنا يعني كنا ملايكة ولا كنا ملايكة .. ربنا غفور رحيم .. أنوي الحج السنة دي وتعالى معانا ..
وجد نفسه بتلقائية ..
-والله فكرة .
(9)
بعد عودتهم من الحج بأيام قليلة .. تأهب الجميع لاستقبال الوافد الجديد ..وكلهم أمل وانشراح إلا هو .. حقا قلت رغبته فى الانفراد بنفسه وخفت الكوابيس والأحلام المزعجة .. وازدادت رغبته فى النوم .. وعندما بدأت آلام الوضع تهاجم ابنته..التفت النسوة حولها فى حجرتها .
وتجمع الرجال فى حجرة الجلوس ..وبعد قليل خرجت عليه ست الدار ونادته وزوجها وهمسة لهما .
-الداية بتقول أن الولادة متعسرة ولابد من طلب الإسعاف .
دون تفكير نادي الرجل على أحد الجالسين بالحجرة وطلب منه استدعاء سيارة الاسعاف لنقلها إلى المستشفى .
سحابة كثيفة .. غيوم .. ضباب .. تكدس كل ذلك فى رأسه .. فى عينيه .. لم يعد يدرك ما حوله .. لم يعد يستوعب ما يجرى .. انهار تماما .. جلس صامتا فى مكانه .. لا قدرة له على أي شئ . ينظر حوله مشدوها .
أدرك من حوله .. ما هو فيه .. تركوه وبدأوا التحرك لعمل اللازم وهو وحده بالحجرة . ينتابه إحساس عميق بأن شيئا ما بالغ السوء سوف يقع . أهوال قادمة انتقام سماوي سوف يحل بها وبها .
وما هي إلا سويعات قليلة إلا وسمع صريخا وعويلا .. امتلأت الحجرة حوله بالرجال . وفد أناس كثيرون على الدار .. نساء متشحات بالسواد .. ورجال .. الكل يبكي ويصرخ من بين ذلك كله وصل إلى مسامعه كلمات متفرقات ..
ماتت قبل الوصول إلى المستشفى .. الجنين .. مات .. شكله .. شكل قرد .
(10)
الجنازة.. اقتربت من المقابر الرجال صامتون .. عند المقابر تجمع بعض النسوة وقد اتشحن بالسواد .. يصرخن .
يعتمد فى سيره على الرجلين بجانبيه .. لم تعد قدماه قادرتين على حمله . تمزق من الداخل تماما .. انهار كل ما بداخله . لم يعد ينتسب إلى عالم الأحياء .
وقف به الرجلان بالقرب من المقبرة المفتوحة لابنته .عيناه شاخصتان إليها .. يريد ان يرى زوج ابنته .. ابنه .
خرجت منه كلمات .. اشارات بيديه .. فهم منها من حوله أنه يريده ..
عندما حضر إليه .. وقف قبالته .. جاءت عيناه فى عينيه.
خلص ساعديه من مرافقيه ..احتضن ..ابنه وانهار عليه .. مصابا بأزمة قلبية .
وكان القاتل مجهولا
(1)
بعد أن خرجت الشمس من مكمنها .. بدأت تشق طريقها فى السماء .. وأخذت بأشعتها الوليدة تكابد كتل الضباب فى يوم شتوي معتدل .
امتطى السعيد أبو إبراهيم حماره .. متجها إلى حقله .. المزروع برسيما .. قاصداً إحضار ما يكفى غذاء الدواب لديه عدة أيام .. فالدنيا شتاء .. وصفاء الجو أمر غير مضمون . والمطر يحول غالبا بينه وبين ذلك . فيضطر إلى خلط المتبقى من البرسيم بالمتخلف من أعواد الأرز الجافة (قش الأرز ) إلا أن ذلك يجعل اللبن المحلوب من الماشية غير دسم ولا تخرج منه القشدة بالكمية المناسبة لعمل الزبد التى تعد مصدراً من مصادر دخله بجانب ما يفيض عن حاجة العائلة من الحليب .
عندما وصل إلى رأس الحقل .. رنا ببصره كالمعتاد .. ناحية الترعة الكبيرة . التى تمر أمام أرضه لا يفصلها عنها إلا طريق ضيقة لا تكفى مرور أكثر من العربة التى يقودها الحمار . حيث تعود أن يجد " جمعة الصياد " جالسا.. ماداً غابة سنارته الطويلة .. فألقى عليه السلام زاعقاً حتى يسمعه . إلا أنه لم يسمع من الرجل الرد المعتاد .
فأعاد إلقاء السلام هذه المرة قائلا :
- السلام عليك يا عم جمعة .
فلما لم يصله رد هذه المرة أيضا .. أعاد النظر إلى مكانه قائلا فى نفسه " لعل الرجل أخذته نومة " ونزل من على حماره وعقد خطامه فى أحد الأوتاد التى دقها على رأس الأرض خصيصا لربط المواشى إليها .. واتجه ناحية المكان الذى توقف عنده فى المرة السابقة وبيده ( الشقرف) لحصد ما يقدر الحمار على حمله وهو عائد . إلا أنه ساءل نفسه .
" هو الراجل ده ما ردش السلام ليه . لعله رابط رأسه بحاجة تدفيه من البرد . لكن السنارة ما كانتش مرفوعة زي العادة ليه .. عموما وأنا راجع أروح لعنده وأعرف ايه الحكاية " .
وظل مشغول البال بهذا الأمر حتى انتهي من وضع كل ما جمعه على ظهر الحمار بطريقة تضمن عدم وقوع أي شئ أثناء السير . وأخذ مقود الحمار بيده واتجه إلى الطريق . حتى إذا كان قبالة الصياد .. أوقف الحمار .. وتوجه إلى مكانه حتى إذا اقترب .. ألقى عليه السلام .. فلم يسمع رداً.. ولاحظ أن يدي الرجل حول السناره وغير ممسكتين بها .. وطرفها الأمامي بالماء .. ورأس الرجل ساقطة على صدره ( والتلفيعة ) التى يتلفع بها طرفاها ناحية ظهره ومعقودة بطريقة توحي بأن أحداً كان يشدها على رقبته من الخلف .
صرخ السعيد بالرجل .
- يا عم جمعة . . يا عم جمعة ..
تسمر مكانه لحظات محاولا استيعاب الموقف .
"الراجل ميت ؟! مقتول ؟! ده ده .. يا نهارك الأسود يا سعيد جرى لك ايه يا عم جمعه ؟! ومن يعمل فيك كده ؟! "
اجتاحته نوبة ذعر لم يعرف مثلها من قبل ..
"قتيل.. على راس أرضى .. وأنا أول واحد .. أشوفه لا.. مش أول واحد أشوفه لا .. مش أول واحد .. زمان عدي عليه ناس كتير رايحين جايين لكن مش واخدين بالهم .. اشمعني أنا اللى عملت ناصح .. كان مالك بس يا سعيد .." وهو فى وقفته هذه مر أحد جيرانه فى الحقل .. ألقى عليه السلام . فلم يرد عليه .. ولما لاحظ شرود السعيد ووقفته رافعاً يديه على رأسه " .
- مالك يا سعيد .. فيه إيه .. جمعة الصياد به حاجة. ونزل الرجل عن حماره وأسرع ناحية السعيد .
- جمعة .. باين عليه مقتول .. يا خويا .. الراجل قلت له السلام عليكم ماردش على جيت أشوف ما بيردش علي ليه لقيته بالمنظر ده باين مقتول .. ولا ميت .. أنا مش عارف .
- ربطة التلفيعة ده بتقول أنه مش موتة ربه يا سعيد .. ووقف هو الآخر مشدوها لحظات .. ثم قال :
- سعيد بقولك ايه يا خويا .. احنا لا شوفنا ولاعرفنا بدل ما ندخل فى سين وجيم مع النيابه ويحبسونا على ما الحقيقة تبان .. وموت يا حمار .. ياله يا خويا نروح وكأننا ما عرفناش حاجه .
وبينما هما يتلفتان ناحية الطريق . مر اثنان آخران يركبان مطيتاتهما فلاحظا الموقف فأوقفا دابتيهما ونزلا .
- إيه اللى حصل يا رجالة ؟ .. مالكم واقفين مبلمين كده ليه .. وماله الراجل ؟! ..
وهكذا أسقط فى يد السعيد .. وأخذ الجمع يزداد .
ولم يعد أمامهم مفر من إبلاغ نقطة البوليس بالقرية . وحضرت النيابة والطبيب الشرعي وأخذت التحقيقات مجراها الطبيعى وتم القبض على السعيد الذى أجمع الكل على أنه أول من شاهد القتيل . ووجهت إليه تهمة القتل فى التحقيقات وألقى به فى السجن لحين انتهاء التحريات والتحقيقات ووصول تقرير الطبيب الشرعي .
(2)
بعد أن أنهى جمعة الخدمة العسكرية .. وكان والده قد توفى وهو صغير .. وتركه وحيد أمه .. التى كانت فى ريعان الشباب وأجمل من كثير من بنات القرية . فلم تستطع الصبر بدون رجل وخاصة وأهلها كانوا يلحون عليها كثيراً .. للزواج ..حتى لا يتعرضوا للقيل والقال . وخوفاً من ضياع الفدانين اللذين ورثتهما هي وابنها عن زوجها واختاروا ابن عمها زوجا لها . وخاصة أنه كان يحبها ويرغب فى الزواج منها إلا أنها كانت تميل إلى من تزوجته ولم يطق الزوج أن يعيش معه وتحت سقف بيته هذا الابن الذى يذكره دائما بأبيه الذى فضلته عليه .
فصبر حتى كبر وأنجب بنتين وولدين من زوجته وحتى إذا انتهي من الخدمة العسكرية ولم يعرف بعد ماذا سيفعل فى حياته فجلس أسبوعين فى الدار يدبر أمره .. حتى افتعل الرجل معه مشكلة وادعي لزوجته .
-ابنك ده طالع لأبوه . وبيكرهني .. مش طايق يشوفني قدامه .. وأنا بصراحة كده ما عنتش طايقه كمان فى البيت .
- طب هايروح فين .
- يروح ولا ما يروحش .. أنا ما عنتش عايزه فى الدار وعلى الطلاق منك ماهو بايت فيها كمان .. سمع جمعة الحوار .. فأخذ ملابسه فى حقيبة صغيرة كانت عنده وذهب إلى بيت عمه الوحيد .. وعندما حكى له ما حدث صمت الرجل قليلا .. وقال له :
- يا عني امك ترميك .. وعايزني أنا اللي ألمك وانا عندي بنات على وش جواز . طيب إزاي تقعد فى الدار بالوضع ده .
اسودت الدنيا فى وجهه .. فأخذ حقيبته واتجه ناحية محطة القطار قاصداً السفر من البلدة تاركا إياها لأهلها. وهو واقف فى انتظار القطار يفكر إلى أين يسافر .
تذكر زميله فى الجندية " معاطي " من قرية ليست بعيدة . حيث كان الصديق المخلص له فقرر السفر إليه. وعندما حكي لأهل معاطي حكايته .. طيبوا خاطره .. ولم يمانعوا فى بقائه معهم والعمل بالقرية فى أي شغلانه وربك الرزاق حسب قول والد معاطي . وفى صباح اليوم التالى اصطحبه والد معاطي إلى دوار العمدة .. وشرح له أمره فلم يمانع العمدة من شغله فى الدوار يرعي البهائم ويزرع الأرض مع غيره من الأنفار .
(3)
مرت سنوات على ذلك الرجل .. يعمل ويقيم فى الدوار حتى بلغ مبلغ الرجال .. فاقترح عليه والد صديقه أن يختار إحدي بنات القرية ممن يرضين به ويكمل نصف دينه .. حيث كان معاطي قد أنجب ثلاثة من الأولاد وأصبح واجبا عليه أن يتزوج حتى لا يفوته قطار الزواج واختاروا له واحدة يتيمة الأم والأب تعيش فى كنف زوج أمها الذى أعطاها داراً قديمة من حجرتين بالطوب اللبن فى طرف القرية كان يستخدمها فى تخزين علف الدواب وأي شئ ليس فى حاجة إليه . واستقر بهما الحال .. ولكن لم ينجبا وعاشا حياتهما بعيدا عن المشاكل قانعان بما قسمه الله لهما .. إلى أن حدث يوم واكتشف العمدة وجود سرقة فى خزين القطن .. فجمع الأنفار التى تعمل لديه بالدوار.. وهددهم جميعا إن لم يتقدم السارق من نفسه ويقر بما فعل .. وساعتها سيغفر له ويسامحه ويتركه لحال سبيله وإلا سوف يظل يبحث عنه حتى يعرفه وساعتها لن يتركه إلا فى السجن ورغم أن معظم الأنفار كانت تعرف الفاعل الحقيقى وهو واحد من أهل القرية إلا أنهم أجمعوا أمراً بينهم وذهبوا للعمدة وأبلغوا أن جمعة هو السارق وأنهم شاهدوه وهو يخرج ليلا بسرقته لبيعها . إلا أن الرجل لم يصدق هذه الوشاية وإن كان بحنكة ادعي تصديقه للأمر وأنه أبقى عليه مدعياً أنه يريد أن يمسكه متلبسا . وعندما أدرك جمعة ذلك طلب إعفاءه من العمل لديه لأنه سلم هذه المرة .. وربما مرة قادمة تكون السرقة أكبر ويتهمونه أيضا فتكون المصيبة أشد . فآثر السلامة ووافقه العمدة على مضض .. وتفهمت زوجته ذلك . وعاشا على مايرزقهما به الله من عمل مؤقت يكفى قوتهما .
واحترف جمعة الصيد بالسنارة . فإن طلبه أحد لأي عمل .. ذهب إليه .. وإن لم يكن هناك عمل حمل سنارته وبحث عن رزقه .. واعتاد على مكان معين للصيد فيه عرفه أهل القرية . حتى إذا أراده أحد لشئ ما ذهب إليه فى مكانه .
وفى يوم علمه بوفاة والدته . أصطحبه معاطي وزوجته للعزاء .. وعندما وجد نفوراً من أهله .. واندهاشاً لحضوره .. فسر ذلك بأنهم ربما ظنوا أنه حضر لأخذ ميراثه من أبيه .. وصدق ظنه عندما ترك زوج أمه العزاء وجاء للجلوس بجانبه وقال له هامسا :
-من أولها يابن الناس .. أنا عايز أعرفك أن أمك باعت لى الأرض بيع وشر ا.. وصرفت ثمنها على جواز البنات وعلاجها وهي مريضة .. وأنا باعرفك أهو علشان مش عايزين فضايح ومشاكل .
نظر إليه جمعه .. فى أسى وقال :
-أنا أصلا ما كنتش عايز آجي .. لأن اللى مسألش علىَّ السنين دي بعد ما طردني من بيته ما يستحقش آجى له تاني لولا أن معاطي قال لى دي أمك ولازم تحضر عزاها .. وعلى العموم .. أنا استعوضت ربنا من زمان .. يا جوز أمي .. وترك .. العزاء وغادر القرية إلى حيث أتي .
(4)
شاع بين الناس أن جمعة لديه ميراث من أمه .. وأن زوجها لا يستطيع التصرف فى الأرض إلا بموافقة جمعة .. وأشاعوا أيضا أن زوجته طلبت ميراثاً لها من أمها أيضا .. وأصبح الناس يتهامسون على ما يملكه جمعة من أرض .. بل أراضٍ هنا وهناك .. وأن ذلك ربما يكون السبب وراء مقتله .
وانتشر رجال الشرطة السريين بين أهل القرية .. وفى قريته الأصلية .. يرصدون ما يحدث وما يقال .. ويتحرون عن الحادثة .
أغلقت زوجة جمعة باب دارها على نفسها ..وصمت أذنيها عن كل ما يقال .. فلديها قناعة .. بأن زوجها لم يكن له أعداء .. وأن ما يقال لا يدخل فى قناعتها اطلاقاً . وبعد أيام شاع فى القرية أن السعيد تجدد حبسه .. وأنه المتهم الرئيسى .
وعندما قابلتها جارتها وهي خارجه يوماً لأمر من أمور حياتها وسألتها عن حالها .. وانتقلت بالحديث عن مقتل زوجها . قالت لها :
-جمعة مات موتة ربه .. يا خاله .. مين هايقتله .. وعلشان إيه .
-علشان إيه .. أمال الأرض اللى ورثها عن أمه هاتروح فين.
-أرض إيه يا خاله .. لو كان معانا أرض كان بقى ده حالنا .
ثلاثية – الأم – البنت – الابن
الأم
بعدما تخطت ( سعدية ) الخامسة والعشرين من عمرها.. اعتبرت ان قطار الزواج قد فاتها . وعلى ذلك تسلل الى داخلها إحساس بأنها غير مرغوب فيها كامرأة . بدأ هذا الإحساس يكبر بداخلها مع مرور الأيام حقا أنها أكثر ميلا إلى السمرة . وأن وجهها المستدير يخلو من كل ملامح الجمال. . إلا أن لها جسدا مميزا . . ساقان ملفوفتان.. وردفان معبران . . . ونهدان ممتلئان صارخان بكل أنوثة . هى تدرك ذلك جيدا . . وتفهم تماما نظرات الرجال إلى مؤخرتها وساقيها وخاصة عندما تشمر عنهما ثيابها أثناء العمل فى الحقول . كما أن أمها عبرت لها عن ذلك صراحة . . عندما أخبرتها ذات يوم وهى تساعدها فى الاستحمام .
- عليك جسد ياسعدية . . اللى يعرفه يتاقله بالمال . ومصمصت شفتيها حسرة .
وتدرك سعدية أيضا . . انه لو كان لدى أبيها شىء من المال . . أو قطعتين من الطين ( أرض ) . . لأضفيتا عليها جمالا غير موجود فيها وساعدا الشباب أو واحداً منهم على الأقل على تجاهل فرق الجمال هذا .
ومع الأيام تضخم هذا الإحساس بداخلها حتى انقلب إلى نوع من اللامبالاة . . وعدم الرغبة في الحياة أصلا . أكلت أم لم تأكل . . شربت أم لم تشرب . . عاشت أم ماتت ماهو الفرق ؟.
فمن وجهة نظرها أن المرأة غير المرغوب فيها موتها أفضل .
إلا أن أمها كان لديها اليقين بأنه سيأتي اليوم الذى يتقدم الى ابنتها الرجل الذى قسمه الله لها .
وجاء هذا الرجل . بائع خضر متجول . . يحمل على جانبى حماره ( جنابه ) ممتلئان بالفجل والجرجير . .
وكثيرا ماكان يقف أمام دارهم مناديا على بضاعته فتخرج لتشترى منه ببيضة ربطتى فجل وجرجير . وأحيانا يتبادلان الحديث بشكل عارض .
وفى يوم حدثها عن نفسه . . . أنه يعيش بمفرده ولم يسبق له الزواج في دار من حجرة واحدة ولا يملك إلا ساحلاً (( قطعة ارض على شط الترعة )) صغيرا يزرعه بالخضر ويتعيش من بيعه بالإضافة إلى عمله أجيراً في مواسم الزرع والحصد . وعندما أخبرته انه يبدو كبيرا في السن . . يقترب من الخمسين عاما . أبدى استهانته بذلك موضحا لها أنه من الأفضل لها وله أن يكملا بقية عمريهما معا بدلا من أن يظلا وحيدين . فكرت لحظة . . ثم قالت له :
-وماله ياخويا . . كلم أبويا .
وكان أن تزوجا واصطحبها إلى حجرته وعاش معا يدا بيد فى كل شىء . حقا لم تشعر بالارتواء كما كانت تتوقع أن يكون الارتواء من الرجل . . وذلك لكبر سنه . إلا أنها أقنعت نفسها بأن شيئا . . . أفضل من لاشىء على كل حال .
ومضت بهما الحياة حتى أنجبا بنتا . . أسمياها صبرية وولدا أسمياه حجازي . وبعد ما يقارب السنوات العشر من الزواج رحل زوجها عن الدنيا تاركا لها الولدين بين ثماني سنوات للبنت والسبع للولد .
استمرت بعده تزرع الساحل . . وبدلا من أن تتجول تبيع الخضر . . أحضرت (( تشطا )) ووضعته أمام حجرتها تبيع فيه بضاعتها واعتاد الناس عليها واعتادت على ذلك . وأحيانا كان الأمر يتطلب ان تجلس هكذا لما بعد آذان المغرب صيفا وشتاء .
كان يتصادف أثناء وجودها بالساحل . . أن يكون سليمان صاحب الأرض التي قبالة ساحلهم مباشرة . . يروى الأرض . . أو يبذر السماد فكان ينتهي من عمله ويأتي إليها مساعدا إياها في اقتلاع أشجار الخضر وتجمعيها في ربطات معدة للبيع وبمرور الأيام كان يعود معها سائرين على أقدامهما يوصلها إلى دارها ويكمل طريقه إلى داره التي تبعد عن دارها قليلا . ثم اخذ يتعود على الحضور إليها وهى جالسة تبيع خضارها حتى تنتهي من عملها . ويعود ولديها من لهوهما مع اقرانهما ويتركها ليذهب إلى داره لتناول عشاءه وتنهض هي لإعداد العشاء لها ولولداها ثم بعد ذلك تجلس أمام دارها قليلا . . . وولداها يلعبان أمامها إلى أن يرغبا فى النوم فيأويان إلى حجرتهما .
لا تدرى على وجه التحديد كيف تطورت الأمور بينها وبين سليمان . . حقا إنه متزوج ولكن ليس لديه أولاد . . . ويكبرها بثلاثة أعوام فقط وبدأ الحديث بينهما يأخذ مجرى آخر . . كلمات غزل وشكوى من زوجته وعدم انجابها . . وانه يرى فيها أشياءً لايراها فى زوجته . . وتطورت الامور من كلمات إلى لمسات لأجزاء من جسدها .
حتى تواعدا أن يجيء إليها ليلا فى ليلة شتوية بعد أن نام أولادها وقد تركت الباب مفتوحا حتى لا يحدث صوتا يلفت انتباه الجيران أو يوقظ الأولاد . لم تعرف كيف تتصرف فالفراش عبارة عن مرتبة مفروشة فوق حصير على الأرض . فما كان منه إلا أن فرش الحصير الذي كانوا يتناولون عليه الطعام فى جانب من الحجرة بعيدا عن الولدين . . وناموا فوقه معا .
لم تذق للجنس حلاوة كما ذاقتها ليلتها . . ولم تعرف المعنى الحقيقي لمعاشرة الرجل إلا وهى بين أحضانه فأيقظ بداخلها المارد الذي نام منذ بدأ بداخلها الإحساس بأن قطار الزواج قد غادر محطتها .
وبدأت تشعر بأن لحياتها طعم آخر . . وجرى الدم في وجنتيها وأخذت ملامح وجهها تشرق بشيء من الحياة . حتى بدأت هي التي تطلب من سليمان ان يحضر إليها . وأحيانا كانت تعد له العشاء معها وأولادها ولا تتركه يذهب للعشاء مع زوجته .
وأخذت العلاقة بينهما شكلا ملفتا . حتى بدأت الأقاويل تتناولهما . . وشعرت زوجة سليمان بما على زوجها من تغير ومنعته من الذهاب إليها أو الحديث معها . فامتنع عنها أياماً . لم تصبر على احتمالها . ولم تقدر على كبت رغبتها المتأججة .
واستجابت مع أول محاولة من جار لها كان يرى في نفسه أنه الأولى بحكم الجيرة من سليمان . . حقا إنها لم تشعر معه بما كانت تشعر به من متعة مع سليمان . إلا أنه كان يروى عطشها ويشبع رغبتها .
واستجابت لمحاولات أخرى من الشباب . . حتى أصبح أمرها معروفاً بينهم . . ورفضت بعنف أية محاولة من رجل كبير السن . وعلى ذلك كانت حريصة تماما على عدم افتعال أى مشاكل مع أى من الجارات إلى أن تردد عليها شاب . . عرفت زوجته بأمره . . وكانت تغار عليه فحضرت ومعها أخت لها قبل المغرب بقليل وأمسكتا بها أمام الدار . وأخذتا تضربانها وتصرخان بها وترميانها بأقبح الألفاظ حتى تجمع أهل الحارة كلهم حولها . ومن بين المتجمعين ولداها . ومزقا ثيابها وأظهرا مناطق حساسة من جسدها وتصيحان :
-اللي ما يشترى يتفرج .
وعند ذلك تدخل بعض من الواقفين والواقفات وأنهيا المشاجرة وأدخلاها إلى حجرتها هي وولديها وأغلقا الباب عليها وهى تبكى .
تكورت مسندة ظهرها للحائط . . دافنة رأسها بين ساقيها ..وبجوارها جلست ابنتها على نفس الهيئة تبكيان.. والولد أسند ظهره إلى الحائط المقابل . . سانداً كوعيه على ركبتيه . . محملقا فى سقف الحجرة . . المكون من عروق خشبية مرصوصة بحذاء بعضها ، دون أن يذرف دمعة واحدة .
لم تكن تتصور أن تصل الأمور بها إلى هذا الحد . . كيف ستواجه الجيران فى الصباح ؟! وبأى وجه ؟! والأدهى من ذلك ولداها . . لقد كبرت البنت وتعدت العاشرة . . ولعلها فهمت ما حدث . وابنها الذي تعدى التاسعة . وكيف سيلعب مع أقرانه فى الحارة ؟!
جفت دموعها . . وصحت أفكارها .
يجب أن أتوقف عن ذلك ؟! ولكن هل أحرم نفسي من هذه المتعة ؟ وأعود مرة أخرى إلى أيام الجفاف . . أتقلب في فراشي كالمجنونة.
هداها فكرها ان تكف عن ذلك مع المتزوجين وتكتفي بالشباب غير المتزوج . فلا زوجة تنتظره في الدار وتغير عليه منها . .
ياما الأبواب مدارية . عندما وصلت بفكرها إلى هذا الحد . بدأت تشعر بهدوء نفسها فقامت توقد (( لمبة الجاز)) وتغير ثيابها . . وعندما أحست بالجوع . أعدت (( الطبلية )) وأحضرت عدة أرغفة وقطعة جبن وربطتين من الخضر بعد أن غسلتهما بالماء . وتربعت تتناول طعامها . وبعد أن وضعت أول لقمة فى فمها وقعت عيناها على ابنتها.. فتذكرت ولديها . وأشارت اليهما . . فحضرت البنت . . وجلست بجوارها . أبى الولد . . . وأشاح بوجهه فنادت عليه فلم يجب .
اقتربت منه مرتكزة على يديها وركبتيها . . ثم مدت يدها تربت على كتفيه فإذا به يفاجئها دافعا يدها عنه بعنف ونظر إليها وعيناه تقدحان شررا .
-إيه . . يا بنى . . مالك . .
التفت برأسه للناحية الأخرى . . تجاهلها تماما . ودون أن ينطق بحرف ابتعد عن مكانها . . ومدد جسده على الفراش مبديا رغبته في النوم .
عادت إلى مكانها السابق . . وأكملت عدة لقيمات هي وابنتها . . ثم عادت إلى جلستها السابقة ساندة ظهرها إلى الحائط . . مادة ساقيها للأمام . . وجذبت ابنتها إلى جوارها . . . واحتضنتها إلى صدرها ثم أنامتها على فخديها . وأخذت تعبث بأناملها في شعر رأسها حتى نامتا وهما على هذا الوضع .
بدأت تشعر بمرور الأيام بتمرد ابنها حجازي عليها . لم يعد يحدثها إلا فيما ندر . . ولم تلتقي نظراتهما إلا مرات معدودة . ولكنها لم تقدر هذا التمرد حق قدره . . فقد بدأت علاقاته بأقرانه تأخذ شكلا آخر . . أصبح كثير التشاجرة معهم . . ودائم الاعتداء وكثيرا ما يتجمعون حوله ويضربونه وما كان يغيظها أنه لم يكن يأتي إليها باكياً أبدا . . وكان دائما حريصا على أن يأخذ حقه بيده من كل من يعتدي عليه أو يسبه بأمه . في داخلها كان ذلك أمر يسرها لكن في نفس الوقت لم تكن ترغب في أن يكون ذلك بشكل دائم حتى لا يسمع دائما سب أمه . الذي كان دائما ما يثيره إلى حد الجنون .
وحرصت بينها وبين نفسها أن تكون نزواتها خارج حجرتها . في الحقول القريبة من أطراف القرية . أو في التلال المكونة من مخلفات المواشي حول القرية . . أو على شوية قش الأرز في ((الأجران )) ودائما أثناء الليل والأولاد نيام .
ومرت الأيام . . وما أسرع مرورها . . وبدأت ابنتها تظهر عليها علامات الأنوثة . . وأصبح لها نهدان صغيران وكبر ابنها وبلغ مبلغ الشباب بدأ شاربه ينبت . واقترب في طوله من طولها . وأصبحت تخشاه وخاصة أنه مازال على عهده معها . متجنبا إياها إلا انه بدأ يسائلها . . عندما تغيب أو تتأخر في قضاء حاجة . . وأخذ يقوم هو برعاية الساحل وإحضار الخضر وبيعه وكان يصر عندما يستأجرهم احد إن يكونوا جميعا معا . . حتى تكون هي وأخته تحت رعايته . . وما أخافها وأسعدها في نفس الوقت أنها تلاحظ أن له هيبة بين أقرانه أو حتى بين الرجال . . فكانوا يحرصون على عدم إهانة أى منهما أمامه . ولفت نظرها انه بدأ يهتم بنفسه ونظافة ثيابه بشكل واضح . فبدأت تخشاه أكثر وأكثر وازداد حرصها في نزواتها . . بل قلت الى حد بعيد .
وذات ليلة خرج بعد تناوله العشاء . . وعندما عاد لم يجدها في الدار وأخبرته أخته أنها قالت أنها ذاهبة في مشوار صغير وستعود . . انتظرها واقفاً أمام باب الحجرة . وطالت غيبتها . . وعندما عادت وجدته واقفا مازال في انتظارها . . وانتظر عليها حتى دخلت من الباب ثم أوصده خلفه . . واحضر عصا كان قد أعدها من قبل خلف الباب ثم سألها والشرر يتطاير من عينه
-أين كنتي ؟!
فأجابته باستكانه :
- فى مشوار
- فين المشوار ده .
زعقت فيه :
-إنت اتجننت . . بتحاسبني ياواد .
عند ذلك أدرك . . تمام الإدراك . . . إنها عائدة من إحدى نزواتها . فانهال عليها بالعصا . . وعندما صرخت . . وضع يده على فمها قائلا :
-اقسم بالله العظيم . . إن سمعت لك صوت ؟ ما عاد طالع لك صوت بعدها .
وأخذ ينهال عليها ضربا . . وفى أي مكان تطوله العصا . . حتى استسلمت له تماما . . وانهارت على ارض الحجرة وهو مازال ينهال عليها وأصابتها ضربة قوية على رأسها . . فصدرت منها صرخة مكتومة . . وضعت يدها على رأسها وكفت عن الحراك .
كف عن الضرب . . ووضع العصا مكانها خلف الباب . نظر إلى أخته . . فوجدها منزوية في أحد أركان الحجرة مذعورة . صرخ بها .
-إياك تمشى على هواك زيها . . . ساعتها سوف أقتلك أنت وهى . قومي رشي عليها شونة ميه وفوقيها ولا عنها ما فاقت .
ثم خرج من الحجرة . . وأغلق الباب وراءه وظل جالسا أمام الحجرة . . وقد جافاه النوم حتى سمع آذان الفجر من المسجد القريب من الدار . عندها دخل الحجرة وانزوى في ركن بعيد عنهما ومدد جسده المكدود . . ونام حتى الظهيرة .
وعندما استيقظ وجد أخته . . تقوم بإعداد الطعام وأمه مازالت ممددة على الفراش . وقد ربطت رأسها بوشاح مبلل بالماء . فقالت له أخته :
-أمك مش قادرة تتحرك .
-عنها ما تحركت . . خليها تموت أحسن .
وظلت في رقدتها هذه ما يقرب من أسبوع عادتها فيه الجارات ونساء الحارة . على سبيل المجاملة . وبعد يومين امتنعت فيهما عن تناول الطعام تماما . . أخذت تستجيب لإلحاح ابنتها وتتناول القليل منه . وفى ليلة . . أيقظته شقيقته .
-حجازي . . أمك باين عليها ماتت . .
شهقت وسكنت مرة واحدة .
فقال لها بعد أن تحسس جسد أمه ووجده بارداً صلباً.
-أيوه . . ماتت
صرخت أخته . . صريخا متواصلا . . حتى اقتحم عليها الجيران الحجرة . وعندما تبينوا حقيقة ما حدث . . احتشدت النساء بالحجرة . . وجلس مع الرجال أمامها مستعينين على الظلمة ببعض الفوانيس . . حتى طلع عليهم النهار وانتهى الغسل وتم دفنها بعد صلاة الظهر وأصر على أخذ العزاء في المقابر فقط . ثم عاد إلى حجرته وأغلق الباب عليه هو وأخته .
الابنـــــــــة
منذ رأت صبرية أخاها حجازي وهو يضرب أمه في تلك الليلة وهى لا تدرى ما حدث لها . أشياء بداخلها تغيرت . . . ومعان جديدة ترسبت . لقد أدركت من الوهلة الأولى السبب الرئيسي الذي دفع أخاها لفعل ما فعله . . وهى وان كانت لم تظهر ذلك . . توافقه . شيء ما ثابت وراسخ في رأسها يميل إليه . لكنها بعواطفها تشفق على أمها . فقد فهمت منذ زمن ليس ببعيد وهى اصغر من ذلك بسنوات . . معنى ما تفعله أمها فقد استيقظت ذات ليلة على صوت وحركات أمها أثناء معاشرتها لواحد من المترددين عليها .
ولم يفطنا إليها . . فأغمضت عينيها وادعت النوم وظلت تنصت لكل شيء حتى غادر الرجل الحجرة . وعندما تمددت أمها بجانبها . . سألتها بصوت هامس
-مين ده . . يا أمه .
-يا خرابي . . أنت كنت صاحية .
سكتت الأم لحظات . . وضربتها بعدها على وجهها . . وهددتها قائلة .
-إياك تقولي لحد . . حتى أخوكى . وإياك تستعبطي مرة ثانية وتتصنتى علينا .
- وليه كده يا أمه ؟!
- عندما تكبرين . . سوف تعرفين ليه .
فهمت أن هناك شيئا ما . . تفعله أمها . . وتخشى أن يعرفه أحد . ولكنها لم تفهم . . لماذا تفعل ما تخشى أن يعرف أنها تفعله ؟! ثم من هو هذا الذي يتردد عليها ليلا ؟ أهو واحد بعينه أم أكثر من واحد ؟ وهل لو كان أبوها حياً كان سيسمح بذلك ؟ . . ثم لماذا تخشى ان يعرف أخى بذلك ؟ أليس صغيرا مثلها ؟
أسئلة كثيرة دارت برأسها ولم تعرف لها إجابات وان كان ذلك فى حد ذاته قد ولد لديها أمانٍ كبيرة . في أني يكون أبوها مازال حياً . . . على الأقل لم يكن ليحدث ما يحدث الآن .
داعبتها الرغبة في أن يكون واحد من المترددين ليلا على أمها . . يعاملها كأب ويشعرها بأبوته ساعتها لن تتردد فى أن تلقى بنفسها بين أحضانه . . لكن . . لا . . إنها لا تعرف منهم إلا أشباحاً ليلية . فاتجهت بمشاعرها إلى أخيها الأصغر . . فليكن هو أخاها وأباها . ومن لها غيره؟ فأحست بحبه يسرى فى وجدانها كله .
ولما رأته يضرب أمه . . خافتة . أحبته وخافتة في الوقت نفسه . وحاولت أن تتفهم أسباب ضربه لها . فطالما كان ذلك الأمر لا يتم إلا ليلا ونحن نائمون فإن ذلك أمر على ما يبدو خطأ . . وفهمت فيما بعد انه حرام أيضا . ولهذا وافقته على أن يضرب أمه . لكن أن يصل الأمر إلى كل هذه القسوة عليها . . فهذا ما كانت لا تتصوره . . وذلك ما أرعبها من أخيها . . أخافها بل جعل الخوف منه يسرى في كل بدنها . . تتشربه خلايا جسدها والذي زاد من هذا الخوف . . موت أمها بعدها بأيام قليلة . وأصبحت تخاف من الرجال . . كل الرجال لأنه واحد منهم أولا . . . ولكونهم السبب في انه ضرب أمه أمامها ثانيا .
حقا . . بعد موت أمها . . وعندما أصبح لا أحد لها سواه ولا أحد له سواها . اتضحت مشاعره ناحيتها وبدا لها عطوفا . . حنونا . . يخاف عليها من نسمة الهواء على حد القول . ولأنه لم ير منها ما يمت بأية صلة إلى سلوك أمه . . وخاصة بعد أن تفتحت أنوثتها . . وبدأ جسدها يستوي . . وتتضح معالمه . . بساقيها الملفوفتين وردفيها الممتلئين كأمها تماما إلا أنها تميزت عنها باستدارة الوجه مع ميل إلى البياض أكثر من أمها . ومسحة من جمال في ملامح وجهها .
أخذت من جسد أمها إثارته . . وزادت عنه في جمال الوجه وميله إلى البياض . فكانت مثار اهتمام الكثير من الشباب . وفى نفس الوقت مثار اهتمام أخيها ومبعث فخره إنها لا تمت إلى أمها بصلة من ناحية السلوك . حتى أنه حدث يوما أن واحداً من مريديها انتابته الشجاعة وحاول إثارة انتباهها إليه . . فغازلها . . فما كان منها إلا أنها صدته صدوداً عنيفاً . . وأخبرت أخاها فما كان منه إلا أن تربص بذلك الشاب وأعطاه علقة يحلف بها طوال حياته . وبعد العلقة هذه بشهرين . . فوجيء حجازي بهذا الشاب يستوقفه يوما ويلاطفه ويخبره بأنه يرغب في زيارته بصحبة أبيه خاطبين شقيقته . فرحب به . إلا أن دهشته كانت بالغة عندما وجد من أخته اعتراضاً شديداً على الزواج وخاصة انه يرى أن الشاب مناسب جدا لأخته . . وعندما استوضح منها الأمر . هل هي ترفض الشاب ؟ أم ترفض الزواج بشكل عام ؟! وعلم انه رفض لفكرة الزواج . . ظل يحاورها حتى فهم منها حقيقة مشاعر الخوف التي بداخلها . فأخذ يلاطفها ويداعبها ويفهمها أن الزواج بالنسبة للبنت هو السترة حتى لا يحدث منها ما حدث من أمها . . وأن أمها إنما فعلت ما فعلت لأنها كانت بدون زوج فقدت أبيهما وهى مازالت امرأة صغيرة في حاجة إلى الرجولة وإلى من يسترها .
وبعد أيام قليلة من محاولاته معها . . وافقته . إلا أن الخوف من الرجل . . أي رجل . . مازال مترسبا في داخلها .. لم يزايلها . . إلا بعد ما عاشرت زوجها ووجدت منه حسن المعاشرة والطيبة . . فسارت حياتها بعد ذلك طبيعية واطمأن أخوها عليها .
الابـــــــــــن
لم يكن الأمر سهلا ولا هينا على حجازي . . أن يتناول العصا التي احتفظ بها خلف الباب لتكون سلاحه في وجه أي معتد على حرمة داره وينهال بها على أمه بكل هذه القسوة حتى تتوقف عن الحركة تماما . ذلك ما لم يكن قد فكر فيه أو رتبه . ربما نتيجة ما اختزنه بداخله . أو تصرف عصبي وليد اللحظة . حقا منذ اللحظة التي أدرك فيها ما تفعله أمه . . يوم أن اجتمعت عليها المرأتان وضربتاها أمام أهل الحارة . . . ومزقتا ثيابها . وعرياها أمام الرايح والجاى . وهو مليء بالغل منها . . يكرهها . . ربما لا يكرهها كأم . . بل يكره تصرفاتها .
فهل يوجد الابن الذي يكره أمه ؟! بداخله شيء انكسر . . تهشم تماما . . وتناثر حطامه بداخله فأدخل المرارة والألم في كل أعضاء جسمه. وتولدت لديه قناعة بأنه لاشيء أسوأ من ذلك بالنسبة له . فتساوى عنده كل شيء . . وكل فعل . . الخطأ مثل الصواب . . والحرام مثل الحلال . فصار عنيفا مع أقرانه . . شرسا في طباعه . . . جريئا في أفعاله . حتى أصبحوا جميعا يخشونه ويحاولون التودد إليه تجنبا لشراسته وكلما كبر. . كبرت معه الأحاسيس التي بداخله . . وازدادت قوته وشراسته . فلم يعد يقف أمامه شيء . . إذا أراد شيئا . . فهو له. وعرف في القرية كلها بذلك . وتعرف خلال تلك الفترة بامرأة شابة تكبره سنا تسكن في داير الناحية . مات عنها زوجها وترك لها قطعتي أرض من أراضى الإصلاح الزراعي وداراً من ثلاث غرف ورأسين مواشي .. أخذ يتردد عليها . قبلته في البداية خوفا منه . . وحصنا تحتمي به من الآخرين . . . إلا أنها بعد ذلك أحبته بل وتمنته لنفسها لم يكن يريد منها إلا ما فقده من أمه . . حنان . . عطف . . أمومة . يتحدث معها وتحادثه . . يشكو لها وتشكو له . في البداية كان كلما ذهب إليها . لا يذهب خاوي اليدين . لم يكن يشغل باله بالتفكير في أي شيء.. إذا وجد أمامه دجاجة.. أمسكها وأخذها معه . إذا مر على أحد من بائعي الفاكهة أو الخضر طلب ما يريده وأخذه دون نقاش ومضى. إلا أنها بعد مدة بسيطة أقنعته أنها لا تريد منه ان يفعل ذلك وأنها لا تريد منه إلا أن يأتيها بشخصه فقط . وان يكون راعيا . . لها ولأرضها وبيتها . . . وحامياً لها من أطماع الرجال الذين ينظرون إلى أرضها وبيتها . . قبل أن ينظروا إليها كإنسانة تريد أن تعيش عيشة كريمة . فهمها . . واستجابت نفسه لما تريده منه . . فأطاعها .
كان ذلك أثناء حياة أمه . . وعرفت به إلا أنها لم تجرؤ على الحديث معه في هذا الأمر . كما أنها كانت تعرف كل شىء عن أمه فلا شىء يظل مجهولا فى القرية . إلا أنها لم تحدثه عن أمه أبدا ولم يحدثها هو أيضا عنها .
وعندما كف يده . . عن اخذ ما يريده . ظلت خشية الناس منه كما هى إضافة إلى إمتنانهم لذلك . فطالما كفى الناس شره . . فله الشكر على ذلك . وأخذ يركز كل اهتمامه على أرضها ومراعاة كل شئونها حيث قاطعها أهلها بعد ما عرفوا بأمرهما معا . وعندما وجد نفسه مدفوعا إليها دفعا . . وأصبحت هى كل اهتمامه . . نبتت في رأسه فكرة الزواج منها . المدهش في الأمر انه لم تراوده معها في أي وقت رغبة جنسية تجاهها أو حتى تجاه أي امرأة أخرى . . طوال هذه المدة التى تردد عليها فيها . لم يفكر ولو مرة واحدة أن يمارس عليها رجولته . ولم تطلب هي منه ذلك ولو تلميحا .. تركته على سجيته تماما . وهذا ما كان يجعله يشتاق إليها ويهفو إليها أكثر من أي إنسان . فقط عندما تقدم لأخته من يطلب يدها . . نبتت في رأسه الفكرة . لم لا يتزوجها . ووجد نفسه يسألها مرة. . هذا السؤال:
- إلا إحنا ممكن نتجوز ؟!
- ومش ممكن ليه .
هكذا أجابته بعد لحظات صمت .
وجد نفسه . . يردد . . ما رددته .
صحيح . . مش ممكن ليه . . طب عن إذنك لحظات وخرج وهو يحدث نفسه بصوت عال مرددا عليها السؤال ومجاوبا عنه في نفس الوقت .
وعاد ومعه المأذون وشاهدان .
أنا . . كان . . مالي
اعتلى (( سلامة الجمال )) سنام جمله البارك . . دغدغ عنقه بعصاه الخيزران الذي يحرص على وجودها بيده دائما. حتى ولو لم يكن راكبا جمله . نهض الجمل واقفا يتأرجح وسلامه للأمام وللخلف حتى تم له الوقوف . . اعتدل في جلسته . . مد عصاه يداعب بها عنق الجمل وموجها إياه إلى طريق الحقل .
لم يكن يشغل باله ساعتها إلا أن يعود بحمل (الدريس) على صلاة الظهر . . قبل أن تقدح الشمس ويشتد لهيبها . ويرقد كخلق الله مقيلا ساعة الظهيرة .
ألقي السلام على كل من قابله . . رجلا كان أو امرأة. حتى إذا خرج من حارتهم إلى الطريق الرئيسي بالقرية . . تناهى إلى سمعه صوت مشاجرة بين امرأتين . . رنا بناظريه ناحية مصدر الصوت . فشاهداهما تتشاجران وقد تماسكتا بالأيدي . . وتتشاتمان . عند صنبور الماء (مكان وضع به صنبوران لماء الشرب ) وقد وقفت بقية النسوة التي حضرن لمليء جرارهم بعيدات لا يتدخلن بين المتشاجرتين .
حتى إذا وصل إلى موقع المشاجرة. . سأل إحدى النسوة الواقفات .
- مين دول يابت ؟! . ومالكم واقفين وسايبنهم يتخانقوا ؟!
- سيدة وبنتها . . يا خويا . واحنا مالنا .
- سيدة وبنتها .
قالها في استنكار . . وأسرع بالهبوط عن ظهر الجمل وهو واقف . وأسرع نحوهما بعصاه .. الطويلة يلهب بها ظهريهما . . مركزا أكثر على الابنة .
-اوعى يا بت . . سيبي أمك .
التحمت . . المرأتان أكثر . . فاختلط الأمر عليه وخاصة أن حركتهما كانت بشكل دائري . فكانت تنزل عصاه كيفما اتفق عليهما.
زاد حنقه عليهما . . وازدادت ضرباته قوة . فجأة . . توقفت المرأتان . . وتركت كل منهما صاحبتها . . وفى لحظة واحدة هجمتا عليه كل من ناحية . . وصراخهما يزداد . . وسبابهما يعلو .
من ذهوله . . توقف عن الضرب . . ويده مازالت مرفوعة بعصاه .
أمسكت الأم بخناقه . . وابنتها من خلفه تنهال عليه بيدها .
شلت يداه . . أيتشاجر مع النساء ؟! انه كان يفصل مابينهما وهما تتشاجرن أما أن يصل الأمر للمشاجرة معهما فلن يصل الأمر إلى هذا الحد ،إن ذلك مستحيل .
وقف مذهولا . . والضرب ينهال عليه من كل ناحية . أفاق لنفسه بعد لحظات . . صرخ فيهما .
-بتضربونى ليه . هو أنا عملت حاجة .
-قطيعة تقطعك حتت . أمال أنت كنت بتعمل إيه .
-أنا باحوش بينكم .
-حد قالك اتدخل . . . أنا وبنتي بنتخانق إنت مالك ياحشرى .
عند ذلك كانتا قد توفقتا عن الضرب . وتركتاه بعد أن مزقتا جلبابه .
على الطريق
اعتلت الشمس كبد السماء . . أخذت حرارة أشعتها تزداد لهيبا . دون أن تسمح بنسمة هواء . . . تخفف من لظاها . موقف السيارات الخاص بالقرى التابعة للمركز عامر بالحركة بين سيارات قادمة وأخرى ذاهبة . وضجيج القادمين والذاهبين والباعة الجائلين وكل سائق بجوار سيارته التي عليها الدور في الحركة ينادى ركابها .
ومن بينهم وقف (( محفوظ )) ينظم الركاب داخل السيارة مكدسا إياهم حتى يمكنه تحميل أكثر عدد منهم . دون اعتبار لأي شيء آخر حتى إذا فرغ من مهمته . . أغلق عليهم أبواب السيارة حتى يكون مطمئنا لعدم فتحها أثناء السير . ركب مكانه وأغلق بابه . . أدار سيارته . . . وتحرك يتهادى حتى إذا خرج من المدينة . . سلك طريقا ضيقا . . مرتفعا عن مستوى الأرض . . يمينه ترعة كبيرة . . ويساره ارض زراعية منخفضة عن مستوى الطريق بما لا يقل عن خمسة أو ستة أمتار . نتيجة لتجريف الأرض . طلب من ركابه بصوت عال:
-الفاتحة للنبي يا جماعة .
أخذ الركاب في تلاوتها . . وهو معهم . .
اعتدل في مقعده . . واسند ظهره إلى ظهر المقعد . وفرد طوله . . وركز ناظريه على الطريق . . التي بدت أمامه ضيقة . . ملتوية كالثعبان ومع ذلك في اتجاهين . زاد من سرعته قليلا حتى يمكنه العودة . أسرع ليلحق وقت خروج الموظفين من أعمالهم ممنيا النفس بإيراد طيب . فاليوم يوم سوق المدينة الرئيسي والحركة من الفجر على خير ما يرام وعندما بدأت تخف . . لقرب انفضاض السوق . . اقترب موعد انصراف العمال من أعمالهم . أحس واحد من الركاب برغبة في التبول . ولإحساسه بكثرة الركاب في السيارة وجد حرجا شديدا أن يطلب من السائق التوقف . فأقنع نفسه بالصبر حتى يصلوا وخاصة أن السيارة قطعت ما يقرب من نصف الطريق . وهى تتهادى بطيئة . . من قدمها وكثرة ركابها .
وفى نفس الوقت تزداد الحاجة إلى التبول عند الرجل حتى لم يعد قادرا على التحمل . صرخ فجأة في السائق .
-يستر عرضك . . وقف دقيقة واحدة . أتبول فيها . . أنا راجل مريض وما عنتش قادر أتحمل .
-يا عم ده وقته .
قال راكب .
-يا أسطي . . مفيش فيها حاجة . . الراجل مريض .
وصمت باقى الركاب . فأحس السائق . . بحرج .
-طب ياسيدى . . . مانقفش ليه . بس وحياتك بسرعة ماتعطلناش
وأخذ الركاب يهبطون من السيارة لإفساح المجال للنزول . حتى إذا وجد نفسه على الأرض اخذ يعدو حتى بعد قليلا . وقف ورفع ثوبه وأخذ في التبول .
إلا انه سمع بعد قليل صوت نفير السيارة يزعق فاعتقد أن السائق يتعجله فهتف به .
-خلاص . . أنا جاى اهوه . . . الصبر يا رجل .
حتى إذا فرغ من قضاء حاجته اخذ يعدو الى السيارة .
والنفير يزعق . وعندما وصل وجد السائق ورأسه مسندة على مقود السيارة والنفير يزعق . مد يده دافعا السائق برفق من كتفه قائلا .
- خلاص . . أنا جيت .
وأخذ يركب ومعه باقي الركاب .
إلا أن رأس السائق ظل كما هو . . والنفير على ما هو عليه .
فدفعه الراكب الذي بجواره إلا أن دفعته كانت قوية بعض الشيء . . . فتحركت رأس السائق . . ومال بجزعه على باب السيارة . .
صرخ واحد من الركاب .
- السائق مات يا رجالة .
الرحلة الأخيرة
استيقظ الحاج عبد الجواد .. مبكراً .. كما اعتاد منذ الصبا أيام كان المرحوم والده يصر على إيقاظ البيت بكامله صغيرا وكبيراً قبل آذان الفجر .. صيفا وشتاءاً . ليتأهب الكل ويتوضأ .. ثم يذهبون فراداً أو جماعة إلى المسجد القريب من الدار .. وبعد أن يعودوا من الصلاة يكون طعام الإفطار قد أعد فى انتظارهم .. وأثناء فطورهم يلقى على مسمع كل منهم ما يجب القيام به من عمل خلال يومه .
حقا لم يكن عددهم يتجاوز الأربعة رجال وابنتين . لكن والحمد لله فيهم البركة .. كما أن الأرض لم تكن كبيرة بالكاد الثلاث قطع التي خصصت لهم من الإصلاح الزراعي كل منها ثلثا فدان .. إلا أنهم يزرعونها بأيدهم وإن احتاجوا إلى أيد معهم فيكون ذلك بالمزاملة ( أي يذهبون يوما مع أي من الجيران أو الأقارب على أن يحضر معهم نفس العدد عند الحاجة ولنفس المدة ) .
ونظراً لأن الوالد كان يعتقد أن التليفزيون والسهر وما إلى ذلك من مفاسد الدنيا فقد اعتاد وعود أولاده على النوم من بعد صلاة العشاء وحتى موعد ايقاظهم . ولم يدخل هذا الجهاز دارهم حتى الآن . ولأن الحاج عبد الجواد مازال يسير على نهج أبيه . لكونه هو الذى بقى فى الدار . حيث أن كل أخ من أخواته بعد موت أبيهم كان يرى أن يستقل بدار له . بحجة أن الحريم فى تجمعهن مشاكل كثيرة وبدلاً أن يحدث بين الأشقاء ما يفسد الود . كان الاستقلال كل بداره .. حقا .. وجد كل منهم متاعب كثيرة نتيجة لذلك .. فالموارد قليلة .. والأرض محدودة .. إلا أن رد عبد الجواد لأي منهم عندما يحضر إليه شاكيا ..
-يا أخي .. هذه كانت إرادتك أنت وزوجتك . فعليك أن تتحمل نتيجة اختيارك .
واستقل عبد الجواد بالدار .. حيث اختارت والدته البقاء معه وكذلك نصيبها في الأرض والدار ونصيبي البنتين أيضا .
حيث رأيتا فيه رائحة أبيهم كما قالتا وحنانه . وطيبة زوجته عن زوجات أخويه .
وكان لزاماً على عبد الجواد أن يقوم بود أختيه فى المواسم والأعياد .. رداً للجميل ووفاء بعهد أبيه معهما حيث كان يصطحبه بوصفه الأكبر فى ذهابه إليهما فى كل موسم وعيد حاملين معهما ما تيسر من رزق الله . لم يكن الوالد يستنكف أن يحمل معه كيلة أرز أو شوية عيش إذا تعسر الحال وإنما كان أكثر همة في الذهاب حينئذ قائلا:
-ود البنات رحمة في الدنيا وفى الآخرة . ولو حتى تسلم عليهم وترجع . كمان ترفع رأسهن أمام أزواجهن .
وعلى ذلك اعتاد عبد الجواد . بعد والده .
تناول فطوره .. بعد أن عاد من صلاة الفجر وشرب كوب الشاي من غير سكر كماأوصاه الطبيب بعد اصابته بمرض السكر . وقبل يد والدته وحمل ما تيسر حمله .. ناويا زيارة أخته بمناسبة النصف من شعبان .. التي تعيش في إحدي القرى التابعة لمركز آخر . بعد أن زار أخته الثانية التي تسكن معه في نفس القرية ليلة الأمس بصحبة والدته وزوجته . ونظراً لكبر سن والدته وبعد قرية أخته الثانية يفضل السفر إليها وحده وخاصة بعد اعتلال صحة والدته وعدم قدرتها على السفر حيث اعتادت قبل موت الوالد . ولأن أخته سعاد قريبة من قلبه أكثر .. ربما لأنها البعيدة . كان سفره إليها يسعده أكثر .
انحشر مع غيره في سيارة قديمة من السيارات التي تنقل الركاب إلى المركز .. حتى إذا وصل إلى الموقف حمل (القفة ) على كتفه .. ووضعها على شبكة السيارة الأخرى.. التي ستنقله إلى قرية أخته واندس داخلها بين الركاب . حتى إذا امتلأت عن آخرها .. أخذت في التحرك وتهادت على الطريق .. وهي تنوء بحملها .. شاقة طريقها غير الممهد بين الحقول كأنها سلحفاة تتحرك . وكلما مرت بإحدى العزب أو أحد الكفور .. هبط منها فرد أو فردان .. وربما صعد مكانهما ركاب آخرين .. أو يفسح الركاب مكاناً للصاعد . حتى إذا وصل عبد الجواد إلى نهاية رحلته رفع حمولته على كتفه وشق طريقه إلى بيت أخته التي قابلته بالأحضان . والتفت حوله هي وأولادها الستة مهنئين بسلامة الوصول . ولما لاحظت عليه الإجهاد .. طلبت منه أن يستلقى طلباً للراحة بعض الوقت حتى يعود زوجها من الحقل وتكون قد انتهت من إعداد الطعام للغداء .
انتهت من إعداد الطعام قبل عودة زوجها من الحقل . حيث كانت قد نهضت مبكرة كعادتها واعدت من أجل أخيها ما تعرف أنه يشتهيه من ألوان الطعام حتى إذا انتهت وصل زوجها فطلبت من الاغتسال وصلاة الظهر حتى يستيقظ أخوها . ولما طال نومه أراد زوجها أن يدخل عليه الحجرة . طلبت منه أن يتركه قليلا حيث أنها لاحظت أنه متعب . كما أنها تعرف أنه لا يطيل النوم ظهراً .
وبمضى الوقت دون استيقاظه .. خشيت أن يبرد الطعام ويفقد لذته وطعامته . فطلبت من ابنها الصغير .. الذى اسمته على اسم خاله والذى كان أثيراً لديه .. ويدلله أكثر من غيره .. أن يتولى مهمة ايقاظه .. ونهضت لتعد الطعام . بهدوء دخل الولد على خاله .. الذى كان ممدداً على الفراش ويداه على صدره .. ضغط عليه مداعبا إياه . فلم يجد صدى لمداعبته . ألقى بنفسه على وجهه ناشداً تقبيله . فتم ما أراد دون استيقاظ الرجل أو حتى يبدي حراكا . أمسك بوجهه بين يديه .
- قوم .. قوم .. الغدا جاهز
فلم يبد من الرجل حراك .
خرج الطفل إلى أبيه زاعقا ..
خالى مش عايز يقوم ..
ثم جرى إلى أمه قائلا لها نفس العبارة .
هب والده من مجلسه منزعجاً .. وجاءت زوجته من الداخل مهرولة . وتسابق من يدخل منهما أولا . حتى إذا وقفا أمام الفراش ولاحظا تمديدة الرجل على الفراش .. خطر على بالها فى الحال منظر والدها عندما دخلت عليه وهو ميت .
فصرخت باكية وهي تنهار فوق جسده .
آه .. يا ولدي
أغلقت باب حجرتها .. بل بيتها .. إذ لم يكن البيت يتكون من سواها . خففت من ضوء الزبالة التى تضئ الحجرة إلى أقصى مدي ممكن . تهالكت على الفراش الذى كان حتى الأمس فقط فراشهما معا . أريكتان متجاورتان وعليهما مرتبة خفيفة . وضعت رأسها على أول الوسادة وطوت بقيتها فوقها .
لا تريد أن تسمع الأصوات التى تتواتر إلى مسامعها من مكبرات الصوت معبرة عن الفرح والسرور بليلة العرس . التى لم تكن فى يوم من الأيام تتمني حدوثها . وإن كان فى يقينها أنها لابد حادثة ذات يوم .
إلا أنها كانت تتمني أن يكون هذا اليوم بعد موتها . وإن كان المنطق والعقل أن تتمناها له كأم . وأن يكون فى حياتها .. بل وتبتهج كأم العروس وأكثر . وتدق الطبول .. ولا مانع من أن تبالغ فى إظهار فرحتها أمام الناس وتحزم وسطها بأي وشاح وتتمايل فرحاً بقدر استطاعتها كعجوز مثيرة حولها جو من الانشراح والسرور . أليست هذه الليلة .. ليلة عرس ابنها . وحيدها .. الذى احتوته بداخلها صغيراً وكبيراً . غمرته بكل حبها وحنانها ورعايتها طفلا .. واحتضنته كبيراً بحيث لم يكن يواتيها النوم إلا وهو بين ذراعيها . اكتفت به . أغناها عن كل رجال الدنيا . كانت تحتضنه .. تشعر بانتشاء وسعادة .. تغنيها عن كل الرجال . فلم تفكر فى يوم بعد موت زوجها وهو ابن عشر سنين متأثراً بمبيد حشرى لدودة القطن بعد أن رش به أرض العمدة .. لم تفكر فى الزواج . حقا لم يتقدم لها أحد ورفضته . ولكنها كانت بينها وبين نفسها قد قررت أن تعيش له وله وحده . لم يغب عن عينيها يوما .. ولم يأكل أو يشرب إلا من يدها . كانت تعمل فى الحقول وتتركه هو يرتاح فى الدار .. تشقى هي .. ويخلد هو للراحة .. ويوم تتركه للعب مع إقرانه .. لا يبعد عن ناظريها .. حتى بعد أن كبر وبدأت ملامح الشباب تشكل ملامحه .. استمر حدبها عليه كما هو .. حقا بدأ يبدي بعض التبرم حينا بعد حين . ويتمرد على البقاء فى الحجرة طوال اليوم .. وأقرانه منهم من يعمل فى الحقول .. ومنهم من يحترف حرفة يأكل من ورائها عيشه .
فأراد أن يكون كواحد منهم .. يمتهن مهنة .. حرفة .. وخاصة أن أمه لن تعيش له طويلا .
أصرت في البداية أن يحترف أي عمل يمارسه أمام الدار. فتمرد على ذلك وأصر على أن يعمل مساعداً لسائق الجرار الزراعي لدي أحد أثرياء القرية . الذي كانت داره بالقرب منهم .. وكان له ما أراد . وبرع فى ذلك حتى اشترى الرجل جراراً آخر ليكون هو سائقه وبمفرده .. فبدأ يبعد عنها .. عندما يذهب إلى حرث الحقول أو رى الأراضي .. فلم يكن يهنأ لها بال إلا بعد عودته .. وإن بات فى الحقل .. تذهب إليه .. تسهر معه طوال الليل .. حتى تبرم منها وأقسم عليها إن فعلت ذلك ثانية .. أن يتركها ويترك البلد كلها ويرحل دون رجعة .
فخافت أن يفعلها . فلم يكن يأتيها النوم .. وتجلس طوال الليل أمام باب الدار فاتحة بابها فى انتظاره . وبمجرد حضوره تسارع بهمة ونشاط بتحضير الطعام التى لم تتذوقه .. والمعد سلفا .. ويأكلان معا .. وتنام معه كما لو كانت طوال الليل معه بالحقل .. أحياناً كانت تقول لنفسها .. وهي ساهرة فى انتظاره :
" الواد كبر .. بقى راجل .. ولا داعي لكل هذا الخوف عليه "
إلا أنها كانت تثور على نفسها .
" طب وانا أعمل إيه .. قلبى لا يطاوعني .. ده هو اللى طلعت به من الدنيا " .
لم يخطر على بالها أبداً .. أن يأتي يوم ويقول لها .
" أنا عايز أتجوز "
أو
" شوفى لى عروسه "
بالرغم من أنه كبر أمام عينيها وأصبح شابا يافعا .. مؤهلاً لذلك .
أيتزوج وينام فى أحضان امرأة سواي .. أناأمه ويوم أن فاتحها فى رغبته بالزواج من إحدي بنات القرية راقت له .. جن جنونها .. طار عقلها .. تمنت أن تميد الأرض من تحت قدميها .. تبتلعها .. لم تنم طوال الليل .. أخذت فى البداية قوله على أنه مداعبة منه أو أي شئ آخر إلا أن يكون جاداً فى حديثه .
- ها تلاقى زي أمك .. يا عين أمك
- لا .. مش هالاقى .. بس أنا عايز أتجوز بواحده تكون قريبه منك .. ولو شويه .
- هو أنت ناقصك إيه .. كل حاجة أنا بعملها لك ..
أكلك .. شربك ..
- أكل إيه .. وشرب إيه .. يا أمه أنت ناسيه أهم حاجه .. أنا عايز واحده أتجوزها .. أعاشرها زي كل الرجاله اللى بتتجوز وتخلف عيال .
أدركت بحسها الأنثوى ما يعنيه .. لكن الأنثى فيها كانت قد ماتت من سنين .. فكيف تفكر بفكرها وتعقل الأمور بعقلها .
- ماشى .
- يعني إيه ماشى .. مالك بتقوليها كده من غير نفس.. ألا تريدين لى الزواج كباقى الشباب .
- ازاي ده أنت عندي بكل شباب البلد .
- أمال إيه يا أمه ؟!!
سكتت .. فلم تجد ما تقوله .
حرائق الدنيا .. اشتعلت فى صدرها ليلتها .. كل شياطين الأرض اجتمعت وتراقصت حول رأسها . أينام فى أحضان امرأة أخرى سواى ؟! ايأكل من يد امرأة عداى ؟!! هل تفقد سعادتها ووجدها وهي تعد له طعامه وشرابه .. وهي تغسل له ملابسه .. وتحرص كل الحرص على أن تكون أنظف من الصيني بعد غسيله ؟! كيف يتأتي لها أن تستعيض عن هذه المشاعر والأحاسيس لو تركته يتزوج ؟! والمصيبة الكبرى أنها تصورت ومعها كل الحق طبعاً .. أن العروسة إن شاء الله سوف تطلب بيتاً مستقلاً تعيش فيه مع عريسها .إمال يعني ها تيجي تعيش معايا فى الحجره دي .. يا لمصائب الدنيا التى وضعت كلها على رأسها تلك الليلة .
عند هذا الحد .. قررت بينها وبين نفسها أن تجاريه .. ومن ورائه تسعي لتخريب كل طريق إلى الزواج .
ذهبت معه إلى أهل العروسة .. جلست مع أمها . واتفق هو مع والدها .. اتفاق رجال أمامها .. وهي صامتة كأنها تشاهد تمثيلية تليفزيونية . وعندما عادا إلى دارهما هاجت على أبنها وماجت .. مفتعلة الغضب من مقابلة أهل العروسة.
-هما كانوا قاعدين كده ليه .. ماحدش مالى عنيهم.
هي يعني ست الحسن والجمال .. وأبوها كمان كان نافش ريشه وبيتشرط عليك كده ليه ؟! هي البلد مافيش فيها غيرها .. هو احنا حيلتنا إيه علشان يطلب كل اللى طلبه ده .
جن ابنها وخاصة أنه كان متصوراً أنها كانت راضية وأنها لم تفتح فمها طوال الجلسة . كما أن الرجل لم يغال فى طلباته كما ادعت بل كان معقولاً جداً . فهاج بها .
- إيه اللى جرى يا أمه .. ما انت كنت قاعده .. ماقلتيش ليه اللى انت عايزاه . الراجل قال لك اللى تؤمرى بيه قلت له البركه فيك وفى أم العروسة . إيه اللى مزعلك الوقت يا أمه ؟!
أخرستها ثورته .. فلاذت بالصمت .
وعندما رقداً ليناما .. أعطاها ظهره غاضبا .. فلم تطق بعده وتصبر على غضبه .. احتضنته وداعبته قائلة ..
-يا ابني هو أنا أكره . ده اليوم اللى أنا مستنياه طول عمرى . بس لازم نحس إن أهل العروسة فرحانين .. مش مستقلين بينا .. وبصراحه كده .. أنا مش عارفه اشمعني دي اللى أهلها طالعين بيها السما . طب بكره أنا هاشوف لك ست ستها .
- بس أنا باحبها يا أمه .
صمت قليلا .. كأنما يراود نفسه .. ثم قال .
- لكن عشان خاطرك يا أمه .. أنا موافق بس بسرعة.. علشان لو ملقتيش اللى على هواك .. نكون ما تأخرناش فى الرد عليهم .
- كلها أسبوع واحد .
وسرعان ما مر الأسبوع .. دون أن يرى سعيا جاداً من أمه.. أو حتى تفاتحه فى الموضوع .. كأنها نسيت كل شئ.. وعندما انتهى الأسبوع الثاني .. فاتحها .
-مر أسبوعان يا أمه .
-لسه بدور لك يا عنين أمك .
-لا عنين ولا ثلاثه يا أمه .. ايه رأيك مش عايز غيرها .
ركب رأسه وأقسم إن لم يتزوجها فلن يتزوج سواها .
فدعت الله بينها وبين نفسها ألا يتزوجها ولا غيرها .
إلا أنها بعد عدة أيام . وبعد صلاة العشاء وجدته يرتدي جلباب المناسبات ويخرج دون أن يتحدث معها . وعندما سألته عن وجهته.. نظر إليها صامتا . ومضى دون أن يقول شيئا .
فأدركت أنه ذاهب إلى أهل العروسة بدونها .. وفعلا وصلتها الأخبار من جيران العروسة بما يؤكد صحة ما وصلت إليه . فقد أدخل أهل العروس فى يقينه أن أمه لا ترغب فى نسبهم وتأكد له ذلك من سلوكها معه . وعليه فإنهم يرحبون به وحده . وهكذا جرى الأمر .
وعندما طلب منها حضور كتب الكتاب .. أقسمت بالله أنها لن تحضر كتب كتاب تم بغير رضاها .
وقاطعت أهل العروس .. وبدأت كلما وجدته أمامها تزعم أن بها مرضا ما .. أو أن أهل العروسة قالوا فى حقها كلاماً ما وصلها .. أو شيئا من هذا القبيل . إلا أنه ركب رأسه وأتم كل شئ حتى ليلة العرس هذه .
أحست بأن الوسادة على رأسها .. تكاد تكتم أنفاسها فرفعتها عن رأسها . تنصتت على الأصوات الصادرة عن مكبرات الصوت الخاصة بالعرس .. حتى إذا أدركت أنه مازال مستمرا . جلست فى فراشها . أحست أن الضوء الصادر عن الزباله قوي .. قامت وأطفأتها . وقبل أن تعود لفراشها راودتها الرغبة فى فتح باب الحجرة التماسا لنسمة هواء تنعشها .. ترد لها روحها الضائعة .
فتحت الباب .. السكون يشمل الكون لا يعكره إلا الأصوات القادمة من بعيد والصادره عن العرس . جلست أمام باب الدار بعض الوقت . النار فى صدرها لم تخمد . أضلاعها تكاد تنطبق على صدرها .. نظرت فى الظلام بغير هدف ..حتى تناهي إلى مسامعها من الأصوات ما يدل على انتهاء حفل العرس . دخلت حجرتها . أغلقت الباب . تمددت فى الفراش . ثنت ذراعها الأيسر أسفل رأسها. وضعت الوسادة بالطول بجوارها .. احتضنتها . أغمضت عينيها متمنية على الله أن يسعد ابنها . وألا يخرج عليها النهار .
واحد .. ليس بغريب يا أمى
(1)
استجمع " سعيد " كل ما لديه من حواس .. ركزها في أذنيه .. واستنفذ مجامع نفسه متوثباً .. للحظة .. يسمع حفيف نعليها وهي تصعد درجات السلم في خفة .. كالطائر الوثاب فقد مضت عليه ثلاث ساعات منتظراً .. أن تصعد إلى السطح .. ولم يصل إلى أذنيه المتحفزتين أي إشارة تدل على خروجها من باب الشقة .
ألم تشعر بحضورى بعد ؟!
ألم يحدثها قلبها بأنني موجود فى انتظارها ؟!
ما الذى جرى ؟! ليمنعها من الصعود حتى ولو بطعام الدواجن التى تواليها . فى عشة تملأ جزءاً متوسطا من فراغ السطح بجوار الحجرة التى يستأجرها بملحقاتها .
منذ تسلم وظيفته بعد طول اشتياق .. هداه أحد السماسرة إلى هذه الحجرة . فوق سطح عمارة من خمسة أدوار كل دور من شقتين كبيرتين . ونظرا لأن دورة المياه والمطبخ ملحقان بالحجرة ومتصلان من الداخل . فقد رحب بها كثيراً أولأ الإيجار مناسب وفى مقدوره . وثانيا لأنه سيكون فى حالة استقلال تام . وهو ما كان يتمناه . فمنذ حضر من قريته للمدينة ملتحقا بمدارسها حتى انتهي من دراسته الجامعية وهو يعيش مع زملائه من قريته وكثيراً ما كانت تحدث مشاكل بينهم تؤثر بشكل كبير على ذويهم فى القرية . لهذا كان حريصا على أن يعيش مستقلا فى مسكنه . هذا بالإضافة لكونه محبا للانفراد بنفسه . حيث يحلو له أن يقرأ .. يسمع شيئا من الموسيقى .. وأحيانا يستلقى على الفراش مغمضا عينيه .. تاركاً لخياله العنان فيذهب به كل مذهب . ثم يعود به ثانية إلى أرض الواقع بعد أن يحقق لنفسه شيئا من المتعة الذهنية .. والسعادة المؤقتة .
طال انتظاره .. ولم ترصد أجهزة التنصت لديه أي بادرة لصعودها . لابد ان أمرا ما قد حدث .. أيعقل أن يمضى اليوم بكامله دون أن تطعم الطيور ؟ أم ترى أنها قامت بذلك فى الصباح الباكر قبل حضوره ؟ أيمكن هذا ؟ أنها بذلك تكون متعمدة عدم رؤيتي .. تتهرب مني .. أيمكن أن تفعل ذلك ؟!
بعد حضوره من العمل .. أول يوم لسكناه .. أخذ يمد حبالاً لنشر الغسيل أمام مسكنه .. كان بملابسه الداخلية .. ظانا أنه المسيطر والمالك الوحيد لسطح العمارة .. ليخرجه من أنهماكه صوت نحنحة رقيقة . آفاق إلى نفسه ناظراً لمصدر الصوت .. لتقع عيناه على وجه صبوح .. جميل .. هادئ فى دعة .. مستكين على استحياء فأخذ بجمالها .. وأخذ يرنو إليها متأملاً قوامها الرقيق .. وصدرها الناهد .. ناسيا ملبسه .. حتى انحنت أمامه وفتحت باب العشة ودخلت وأغلقت عليها . ظل مشدوها .. لحظات .. تنبه بعدها لنفسه وعندما أدرك حقيقة مظهره .. دخل حجرته .. وارتدي جلبابه وعاد لإكمال عمله .. مترصداً خروجها.. الذي لم يمض وقت طويل عليه .. حتى انتهت من عملها وأغلقت الباب خلفها .. وقطعت السطح فى خطوات هادئة متزنة نازلة إلى شقتها .
لم تكن المرة الأولى التى يرى فيها فتاة جميلة بالتأكيد فطول فترة أقامتهم وهم طلبة بالمدينة وهم محط أنظار فتيات كل منطقة يقطنون فيها . وخاصة لو كان لأصحاب البيت الذى يسكنونه فتيات فى سنهم أو أقل منهم . وكثيرا ما كانت تنتهي دراسة أحدهم وهو مرتبط بواحدة.
أما من بنات المنطقة السكنية .. أو من بنات أصحاب البيوت . إلا أن هذه الفتاة شئ آخر .. ولم يدرك ذلك إلا بمرور الأيام .. حيث كانت تصعد وتهبط دون أن تحاول جذب انتباهه .. أو لفت نظره إليها .. ومن جانبه كان يترصد وقت صعودها الذى حدده بين الثالثة والرابعة عصرا .. وفهم من ذلك أنه بعد تناولهم وجبة الغداء تصعد بما تبقى من غدائهم للطيور .. وعليه كان خلال هذه الساعة يتعمد الجلوس أمام باب الحجرة .. متصنعاً قراءة الجريدة .. مرة .. نشر الغسيل .. مرة ثانية .. نظافة السطح أمام مسكنه ثالثة وهكذا .. حتى تحضر .. ويشبع عينيه بالنظر إليها .. و يمني النفس وهو يتطلع نحوها .. وبعدما مرت أيام .. وحدث شئ من التعود .. عليه بالنسبة لها .. صعدت يوما وهو جالس وقبل دخولها إلى عشة الدواجن صامتة كالعادة .
استوقفها قائلا :
-السلام عليكم ورحمة الله . قالها بصوت يسمعها أياه. توقفت .. والتفتت إليه .. وبعد لحظات صمت قالت له .
- السلام عليكم .
- أيوه كده .. لقد أصبح من حقى عليك أن تلقى إلى بالتحية وأن أردها عليك بأحسن منها .. أقصد كجارك .
-صدقت . ودخلت عشتها . وترصدها وهي خارجة .
وعندما وجدته جالسا يرنو إليها .. ارتسم على وجهها شبح ابتسامة . قابلها بابتسامة واسعة . وقالت وهي تسرع الخطو .
-سلام .
-أراك غداً على خير .
وكانت البداية .. سلامات .. كلمات عابرة .. ثم أحاديث خفيفة .. فأخرى طويلة .. حكت له أنها الأبنة الوحيدة لوالديها .. ووالدها بالمعاش حيث كان يعمل موظفا بالشهر العقارى ووالدتها ربة منزل .. وسبق لهاالزواج من أبن خال لها.. إلا أنه كان عاجزاً عن الحياة الزوجية .. وبعد مضى ثلاث سنوات طلبت منه الطلاق بعدما فقدت قدرتها على الاستمرار معه بالرغم من أن ذلك تسبب فى غضب الأهل من ا لجانبين من بعضهما بعضا . ولأنها كانت آثيرة عند والدها فقد أصابته جلطة بعد طلاقها لإحساسه بالذنب لأنه كان السبب وراء هذه الزيجة .. ولم يشف تماما حيث مازال جانبه الأيسر شبه مشلول .. ووالدتها من بدانتها لا تتحرك كثيراً .. وعلى ذلك فهي التى ترعاهما . وكأن العناية الإلهية دبرت طلاقها لأجل أن ترعى والديها . وأنها صرفت النظر تماما عن فكرة الزواج لأجل ذلك . إلا أنها لا تنكر .. أنها منذ رأته .. تحرك شئ ما بداخلها .. قاومته كثيرا فى البداية .. وحاولت تغيير موعد صعودها إلى السطح ليكون أثناء تواجده فى العمل .. إلا أنها لا تدري لماذا عادت إلى وضعها السابق لعل الله يريد لهما أمرا .. لا تعرف كيف ؟ ولا متى ؟
(2)
ازداد تعلقا بها .. وحرصا على لقياها والحديث معها .. فطالت وقفاتهما معا على السطح . طلب منها لقياها بالخارج فرفضت بشدة .. طلب منها يوماً ممطرا الدخول معه للحجرة اتقاءً للمطر .. فرمقته بنظرات حادة وغادرته فأسرع ممسكا بيدها ومقسماً أنه لم يكن يقصد شيئا إلا اتقاء المطر . وكبرت لحظتها فى عينيه وقلبه وسلم لها مقاليد أمره وأشفقت عليه من أنه يعود من عمله لا يجد لقمة يقتات بها وإنما عليه أن يعد طعامه وهو متعب . فطلبت منه ترك مفتاح الحجرة فى مكان اتفقا عليه . مشترطة عليه عدم الحضور إلى المنزل فترة الصباح وحتى موعد حضوره . على أن تحضر هي وتنظفها وتعد له الطعام.. على أن يحضر لها الخضر ليلا أو الصباح الباكر ويتركه بالحجرة . حتى إذا عاد من عمله وجد الغداء معدا على المنضدة .ومغطي بأوراق الصحف وساخناً كأنما أعدته من لحظات . وطعام العشاء معدا بمكان آخر بالمطبخ . فوجد فى ذلك سعادة ما بعدها سعادة . وأصبحت حياته منظمة وهنية .. واعتاد على ذلك .
وذات يوم أحس وهو فى العمل بوعكة صحية . فأستأذن وعاد إلى بيته . وعندما صعد إلى السطح وجد فرش حجرته معرضاً للشمس والباب والنوافذ مفتوحة وهي منحنية تمسح الأرضية .. شهقت وأسرعت إلى دورة المياه وأغلقت عليها الباب صارخة من ورائه .
-أهذا ما اتفقنا عليه .
-والله ما كنت أقصد شيئا .. غير أني أحسست بالمرض وأردت أن أرتاح قليلا ..
- خير .. سلامتك ..
- حرارتي مرتفعة وأشعر بدوخة .
- أنتظر قليلا سأرتدي ملابسي وأخرج لك .
وبعد لحظات خرجت عليه بكامل ملابسها .. مدت يدها وتحسست جبينه .. أجلسته على مقعد .. وفى لحظات كانت قد أدخلت الفراش واعدته له وطلبت منه الرقاد بعد أن بدل ثيابه . وأعدت له ليموناً دافئا وأحضرت له دواء من صيدلية قريبة . وتركت له غداءه .. كالمعتاد .. وطلبت منه النوم قليلا .. متمنية له العافية واعدة إياه بالمرور عليه ليلا للاطمئنان .
(3)
سرى حبها فى عروقه ممزوجاً بدمائه .. أصبحت جزءا منه عضوا مهما من أعضاء جسمه .. إذا نظرت إليه عرفت ماذا به ؟ وماذا يريد أن يقول . وإذا غابت عنه أحس بخواء وفراغ يشمله ويكدر عليه صفو حياته .
حتى أصبح وقت الانصراف من العمل أسعد أوقاته ..
وطريقه للعودة يقطعه مهرولا .. حتى يشعر أنه بجوارها .. حتى ولو لم يرها فكفاه أحساسه أنها بالقرب منه .. يتنفس الهواء الذى تتنفسه .. فماذا يبغي أكثر من ذلك من أي فتاة لتشاركه أحلامه ؟ ماذا ينقصها .. تعليمها المتوسط؟! لا مشكلة فى ذلك ثم أنه لا يريد منها العمل يكفيهما رابته .. وما يجود عليه الأهل بالقرية . فوالده لديه من الأرض عشرة أفدنة يزرعها وأخواه الأخران اللذان اختارا أن يستمرا على جهلهما ويزرعا الأرض مع الوالد وأختاه اللتان تزوجتا بنفس القرية .. لكن ما أقلق مضجعه هو سابق زواجها . فهل يرضى بذلك أهله . قرر أن يسافر لهم ولن يعود إلا بعد الحصول على موافقتهما بأي شكل . وأرجأ الأمر إلى أجازة عيد الأضحى حيث لم يتبق عنها إلا أسبوع .. وكما اعتاد فلابد من قضاء العيد بين الأهل .
صارحها بما يجول بخاطره .. وبما يخشاه من احتمال اعتراض أهله .. ساعتها .. هربت بعينيها إلى الأرض . . واكتسى وجهها بعلامات الانكسار .
مد يده برفق محتضنا بها أسفل وجهها .. رافعاً راسها .. قائلا :
- لا تخشى شيئا .. لن أعود إلا لك .. وأتمني على الله ألا أرى هذه النظرة في عينيك مرة ثانية حتى ولو آخر يوم في عمري .
- تعود لي بالسلامة .
- إن شاء الله لو اتفقنا سوف أعود ثالث أيام العيد لنقضيه معا فهمت مراده . وتمنت له عيدا سعيداً .. وعودة سريعة .
(4)
وجد من والده وأخواته ممانعة شديدة ..ووقفت والدته على الحياد . خشية من انكسار قلب ابنها أما أختاه فقد وقفتا بجانبه بشده فطالما أنها مازالت فتاة .. فما هي المشكلة .. كما أنه لا ذنب لها فى أي شئ .. وطالما قلب أخيهم يريدها فماذا يريدون ؟ فأخذت الأم تميل إلى قول البنات . وظل الوالد والأخوة على موقفهم ..وخاصة أن الوالد كانت عينه على أحدى بنات الجيران .. وأهلها أناس ميسورو الحال .
بنت البندر سوف تربطه بها وبالبندر فأراد أن يضع حدا للسجال وحسما للأمر فقا ل :
-يا والدي .. أنا الذى سأتزوج .. ومن حقى اختيار شريكة حياتي .. ثم أني بحكم العمل وباب الرزق مرتبط بالبندر وليس بحكم الزواج فقط .كا أننى لست على استعداد للزواج من غيرها مهما كان شأنها .
نزل قوله على قلب والده وأخواته كالصاعقة .. وبردا وسلاما على قلب أمه وأختيه . وساد الصمت بينهم .
لحظات طال أمدها .. فلم يجد بدا من الانصراف من بينهم تاركا لهم حرية الحديث والنقاش فى غيابه لعل أمه وأختيه ينجحان فى التغلب على ممانعة الوالد والأخين .
وفى صباح اليوم التالى كما وعد محبوبته غادر القرية عائدا إلى المدينة بعد اتفاق مع الوالد على أن يترك الأمر بعض الوقت واتفقا بعد إلحاح منه على عشرة أيام ليراود كل منهما نفسه ويراجعها .
طالت جلسته ولم تصعد ؟ ما بالها ؟! ألم تشعر بوجوده بعد أم أنها بالخارج ؟ أنسيت ما تواعدا عليه ؟! أم أصابها مكروه منعها ؟
ساد الشفق الأحمر على زرقة السماء .. وأخذت الشمس تتواري خلف ستائر الليل الزاحفة . نسمة رقيقة .. حانية تسود ذلك المساء .. قلق فى مجلسه .. تارة غاديا رائحا .. وأخرى يقترب من نهاية السلم ناظراً لأسفل لعله يراها صاعدة .
وأفكار تتصارع فى رأسه .. تراوده عن أسباب غيبتها غير المتوقعة .. وقلبه يضطرب وتتسارع دقاته ... ما الذى جرى ؟! أتراها توقعت رفض والدي وأرادت أن تريحني من لحظة المواجهة ؟! أهل هذا معقول ؟! ولماذا رغم كل ما بيننا تتوقع أن أتخلى عنها مهما كان الأمر ؟ حتى ولو رفض الأهل ؟ هل أنا قاصرا عن الزواج منها بالرغم منهم ؟ لعلها أرادت الانسحاب من حياتي حتى تجنبني الصدام مع أهلى ؟ ماذا جرى ؟! وماذا أفعل ؟
وقفت لحظات أمام باب الحجرة عاجزاً عن التفكير مشلول الإرادة .
أكاد أجن .. لا أتصور كيف سيمضى بى الليل دون أن أراها ؟ كيف يغمض لي جفن ؟ وأنا ممدد على الفراش الذي هيأته لي ؟ لابد من تصرف ما .. لابد أن أتحرك .. مالي أقف هكذا كالمشلول ؟! أين ذهبت إرادتي ؟ بدون أدني تدبر .. حتى لم يعط لنفسه الفرصة لغلق باب الحجرة .. أو تسوية هندامه أو تمشيط شعر رأسه .. أخذ يهبط درجات السلم مسرعا .. حتى إذا وقف أمام باب شقتها .. وضع يده على جرس الباب الذي أخذ يصلصل زاعقا بالداخل . ومن وراء زجاج شراع الباب يري خيالها يقترب .. حتى إذا فتح الباب .. ألقى بنفسه بين ذراعيها ..وصوته يتهدج .
- أين أنت ؟! انتظرك من الصباح . أهل هذا معقول ؟!
-خشيت .. أن ..
وضع يده على فمها .. أسكتها.
- أتخشى شيئا وأنا حي على وجه الأرض .
ضمته إلى صدرها أكثر بعد أن أغلقت الباب خلفه .
- أتاها صوت والدتها من الداخل .
- من بالباب ؟
-واحد ليس بغريب يا أمي ؟
المحتــــوى
قدر ومكتوب / 7
وكان القاتل مجهولاً /28
ثلاثية الأم – البنت – الإبن /36
أنا .. كان مالى /52
على الطريق /55
الرحلة الأخيرة /58
آه يا ولدي /62
واحد ليس بغريب يا أمي /70
ـــــــــــــــــــــــــ
صدر حديثاً :
رائحة البيوت
رواية
أشرف حسن عبد الرحمن
صالون برلين
رواية
السعيد أحمد نجم
رسالتى إليك
شعر
عباس الشرقاوي
تكات الخريف
قصص
صابرين الصباغ
إيطاليا أو الغرق
رواية
السعيد أحمد نجم
نهاية رحلة الأحلام
قصص
محمد خيرت حماد
ما قالته نظرتها الأولي
شعر
صابر معوض
لن أكون سبية
شعر
راندا الجندى
أين نحن وإلى أين نتجه ؟
مقالات
صبرى قنديل
إلى هذا الحد ..؟! ط2
قصص
محمد خيرت حماد
أحلام على الطريق ط2
قصص
محمد خيرت حماد
كبر داء
شعر عامية
د. عصام زكى الغنام
هانت الأفراح
شعر عامية
سلطان البهوتي
لا عليكِ
شعر فصحى
عبد الناصر الجوهرى
حمام أم الرشراش
قصص
فؤاد حجازي
المهرج لا يستطيع الضحك
شعر
عبد الناصر الجوهري
أنا رغم الجراح عاشق
شعر
سلطان البهوتي
سأغني للفجر القادم
شعر
محمد يوسف بلال
عليه العوض
رواية
السعيد أحمد نجم
لمن تهدرين شجونى
شعر
عبد الناصر الجوهرى
جمرات خابية
مذكرات
أحمد ماضى
لست أنا ، لكنه اسمي
رواية
أحمد ماضى
دموع النوارس
رواية
أحمد ماضى
هنا القاهرة
شعر
السعيد قنديل
الممر ط2
قصص
أحمد ماضى
هويت بحرك
شعر
جابر على شطا
قدر ومكتوب
قصص
محمد خيرت حماد
تحت الطبع :
الظلام الدافئ
رواية
أحمد ماضى
رائحة البيوت
رواية
أشرف حسن عبد الرحمن
صالون برلين
رواية
السعيد أحمد نجم
رسالتى إليك
شعر
عباس الشرقاوي
تكات الخريف
قصص
صابرين الصباغ
إيطاليا أو الغرق
رواية
السعيد أحمد نجم
نهاية رحلة الأحلام
قصص
محمد خيرت حماد
ما قالته نظرتها الأولي
شعر
صابر معوض
لن أكون سبية
شعر
راندا الجندى
أين نحن وإلى أين نتجه ؟
مقالات
صبرى قنديل
إلى هذا الحد ..؟! ط2
قصص
محمد خيرت حماد
أحلام على الطريق ط2
قصص
محمد خيرت حماد
كبر داء
شعر عامية
د. عصام زكى الغنام
هانت الأفراح
شعر عامية
سلطان البهوتي
لا عليكِ
شعر فصحى
عبد الناصر الجوهرى
حمام أم الرشراش
قصص
فؤاد حجازي
المهرج لا يستطيع الضحك
شعر
عبد الناصر الجوهري
أنا رغم الجراح عاشق
شعر
سلطان البهوتي
سأغني للفجر القادم
شعر
محمد يوسف بلال
عليه العوض
رواية
السعيد أحمد نجم
لمن تهدرين شجونى
شعر
عبد الناصر الجوهرى
جمرات خابية
مذكرات
أحمد ماضى
لست أنا ، لكنه اسمي
رواية
أحمد ماضى
دموع النوارس
رواية
أحمد ماضى
هنا القاهرة
شعر
السعيد قنديل
الممر ط2
قصص
أحمد ماضى
هويت بحرك
شعر
جابر على شطا
قدر ومكتوب
قصص
محمد خيرت حماد
تحت الطبع :
الظلام الدافئ
رواية
أحمد ماضى
16 مايو, 2009
السراية الكاتب الأديب محمد خيرت حماد
السرايــــة
روايــة
محمد خيرت حماد
أدب الجماهير
تأسست عام 1968
الإبداع طريق التقدم
كتاب أدبي يشرف عليه:
فؤاد حجازي
المراسلات :
المنصورة – ش. د. سيد أبو العينين-عمارة الفردوس.
جوار مدرسة الشيخ حسنين.
الرمز البريدي 35111
ت : 2247168 / 050
إهـــداء
إلى من تدل نبضات قلبها
على سريان الدم فى عروقى
وتبدد إبتسامتها كل
ظلمات حياتي
وأستمد من حنانها
قوة دفع لغد آتٍ
مع خالص حبى وتقديرى
المؤلف
روايــة
محمد خيرت حماد
أدب الجماهير
تأسست عام 1968
الإبداع طريق التقدم
كتاب أدبي يشرف عليه:
فؤاد حجازي
المراسلات :
المنصورة – ش. د. سيد أبو العينين-عمارة الفردوس.
جوار مدرسة الشيخ حسنين.
الرمز البريدي 35111
ت : 2247168 / 050
إهـــداء
إلى من تدل نبضات قلبها
على سريان الدم فى عروقى
وتبدد إبتسامتها كل
ظلمات حياتي
وأستمد من حنانها
قوة دفع لغد آتٍ
مع خالص حبى وتقديرى
المؤلف
ــ 1 ــ
منذ انتقل عمدة القرية إلي الرفيق الأعلي .. وعـبد الجبار .. يعتبر نفســـه العمدة القادم . بل أن بعـض رجاله وأنصاره ... اخذ يناديه بذلك فعلا . وأن كان بينه وبين نفسـه يرى انه هو الاحق بالعمودية من زمن طـويل .. حتي من قبل أن يكون شيخا للبـلد ، فـطول قامته .. وعرض منكبيه .. يمنحانه هيبـة تضيف عليها صرامته وقوته .. هيـبـة ورهـبـة . في قلـوب كل المتعاملين معــه مـن خـفـر وبـعـض المشـاغـبين من اهـل قـريـتـه . ومـنـذ تولي مشـيخـه القـريه.. انعـدم فيها ما يعكر الصـفـو . والتـف حـولـه بعـض من الشـبـاب والـرجـال ممـن توسمـوا فـيــه الزعـامـه .. والقـدرة والـنفـوذ آملين في تحقيق مصـالحهم.. وفي نـفـس الوقـت يوفـرون لأنـفـسهـم الحـمـايه من اى باطـش . ولامانـع من أن يـكـونـواهـم رجـالـه .. ويـده التى يبـطـش بـهـا .
وقـد أعــد نـفـسـه لـهـذا الـيـوم جــيـدا.فـقـد سـعـى لـدى أخـواتـه البنات الخـمـس المـتـزوجـات فى عـائلات القريـه المـخـتـلفـه حتـى كـتـبـت كل مـنـهـن ما تملكه من أرض باسـمـه حـتى يـتـوفـر لـديـه بالاضـافـه لمـا يـمـلـكـه نـصـاب العـمـودية وهـو عـشـرة أفـد نـه . بـل زاد عـنـه بـفـدانـيـن . كـمـا وأنــه وطـد عـلاقـاته بـعـائـلات أزواج أخـواتـه الـبـنـات .. لـدرجـة أن كـل أزواج أخـواتـه راضون عـن تـنـازل زوجـاتــهـم عـن أراضـيهـن لأخـيـهـن بالرغـم مـمـا تـعـنـيـه الأرض للفـلاح .. عـن طـيـب نـفـس .
آ مـلـيـن فى أن تـعـود اليهـم بـعـد أن يـنـال مـراده ويـصـبـح عـمـده القـريـه . بالاضـافـه لـمـا سـيـضـيـفـه ذلـك عـلـيهـم من جــاه ومـا سـيعـود عـلـيهـم من مـصـالح.
كمـا أنـه داوم عـلى الجـلوس امـام الداركـل يـوم بـعـد صـلاه العـصـر.. وحـولـه حـشـد من أتـبـاعـه وأنـصـاره حـتـى صـلاه العـشـاء . منـفـردا بمـقـعـد خـشـبى كـبـيـر لايـقـعـد عـلـيـه سـواه .. أن كان حـاضـرا أو غائبـا . . وبـاقى الحـضـور عـلى الأرائـك الخشـبـيـه التى رصـت عـلى جـانـبى مـقـعـده . وحـرصا من أهـإلى الـقـريـة وكـبـار رجال عائلاتها عـلى كسـب وده وإعــلأن تـأيـيـدهـم لــه .. يـتـوافـدون عـلى مجـلسـه بـيـن الحـيـن والآخـر ويـرفـعـون الـيـه مـشـاكـلهـم .. ويـرتـضـون بالحـلول التى يـقـد مـهـا لـهـم وخـا صـه انـهـا تـكـون مـرضــيـه للـجـمـيـع وعـلى ذ لـك يـتقـبـلهـا كـل الأطـراف مـقـتـنـعــيـن لأ نـهـا تـعـطى لـكـل ذى حـق حـقـه .
وبعد أن ينتهوا من صلاة العشاء .. يذهب كل منهم إلى داره لتناول عشائه ثم يعـود من يرغـب منهم فى استكمال سهرته فى المضيفة . وهى حجرة من دار العـمدة لها باب عـلى الشارع . ويحلو لهم السهر . فى وجود عـبد الجبار.. وفى عـدم وجوده .. وخاصة أن أحد الخفراء مختص بامور الضيافة .. من اعـداد شاى وقهوة وإحضار الطعام من داخل الدارلمن يطلبه . وذلك فى أيام الصيف . أما فى الشتاء .. فالجلوس يقتصر عـلى المضيفة فقط.. ليلا ونهارا . حتى انتصاف الليل ..فى الليإلى غـير الممطرة . اما الليالى الممطرة.. فالكل ينام من بعـدصلاة العـشاء. ولايتبقى بالمضيفةالا الخلصاء وبعـض الخفر وأصحاب المشاكل . يظلون يتسامرون حتى يرغـب عـبد الجبار فى النوم .. فيغادرهم قائلا :
ــ البيت .. بيتكم ياجماعة .. بالاذن . فينهضوا جميعا من مجلسهم حتى يغادرهم .. ويبقى من يبقى .. ويغادرمن يرغـب فى ذلك.
إلا أن ما يشغـل بال عـبد الجبار .. أن بداخله احساساً .. أن الدار التى يسكنها .. لا تصلح له كعـمدة .. نعم كانت عـلى قدره كشيخ للبلد .. لكن العـمدة.. وضع آخر. تراوده أحلام كبيرة.. أن يسكن سرايه .. كبيره . تليق به كعـمدة متميز عـن من سبقوه .إلا أنه أرجأ تحقيق هذا الحلم لما بعـد حصوله عـلى المنصب .
ومن ناحية اخرى .. أكثر من سفره إلى المركز .. والجلوس مع مأمور المركز .. وضباطه وبالأخص ضابط المباحث .. ولا مانع كل كام يوم من ارسال الخفير الخصوصى .. ببعـض الهدايا من الفطيرالمشلتت والطيور.. التى تحرص زوجته عـلى تربيتها فى الدار .. من بط وأوز وحمام .. ولا مانع فى أيام سوق القرية من كام كيلولحمة .. وكذلك فى المناسبات .
ولم يقطع عادة .. افطار حضرة المأمور وضباط المركز .. يوم فى رمضأن من كل عام .حتى أصبحت هذه العادة .. منذ تولى مشيخة البلد .. مناسبة لايمكن تجاهلها .. بل يذكره بها الضباط أنفسهم .. حيث تكون الوليمة عـامرة بكل ماتهفوا له ألأنفس . وعـلى ذلك كانت علاقته بالمركز عـلى أحسن ما يكون .. حتى أنهم فى حياة العـمدة الراحل .. عـندما كانت تحدث أى مشكلة فى البلدة كان الاتصال يتم به متجاهلين العـمدة تماما . حقا كان ذلك يثلج صدره ..الا أنه كان فى نفس الوقت يقول لنفسه .. لو كان ذلك وأنا عـمدة .. كانت سعادتى ستكون أكثر .
ــ 2 ــ
حبى اللـه عـبد الجبار.. بمـزايا جسديه.. فـكان مـن يراه .. يتصور أنـه أحـدأبطال الرياضـه .. بالرغـم مـن أنه لـم يمـارس مـنـها الا ريـاضـه شـد الحـبـل فى الـعـشـريـنـات مـن عـمـره . وكان دائـمـا مـا يـتـفـوق فـريـقـه عـلى أقـرانـه .
وبـالاضـافـه إلى هـذه الـمـزايـا .. كان فـيـه وسـامـه لاتخـفـى عـلى نـاظـر . بالرغـم من صرامته المعـهوده . إلا أنه كان ذكيا فـطنـا .. ميالا للفكاهـه والسمـر.وبالرغـم من فحولته الباديـه للعـيـن .. الا أنـه كان ملتزما .. يخشى اللــه..وحريصاً عـلى ألا يمس أى امـرأه الا فى ألحـلال . ويـرجـع ذلـك فى حقيقـه الأمرإلى مـيله الشـديـد للتـدين بالإضافـة إلى حبه الشديـد لامه التى آ لت عـلى نفـسهـا أن تقـوم بتربيتـه هـو وأخواتـه البنـات الخـمس . بـعـد موت والده وهـو ابـن الـسنيـن العـشـر . ولـم يشعـر فى يـوم من الأيـام أن بـها ضعـف المـرأه وانما قـوية صلبـة بعـشرة رجـال كما سمع عـمه إبراهيم يـقـولـها ذات يـوم .
وكانت كل الأسرة تعـمل لهـا ألف حساب . ربتهم جميعـا .. متحابيـن .. وزرعـت فى بناتهـا حـب أخيهم .. فهو رجلهـم .. أبـوهـم .. الذى يجب أن تـوكل كل واحـده منهـن أمرها اليـه . فـكبرن عـلى ذلك . ولأنهـا توسمـت فيـه الرجولـه من صغـره .. زرعـت فى عـقله عـندما بدا لهـا كبيـرا .. فكـره السعى لكى يكون عـمده القـريـة . بل قالتـها جهارا نهارا أمام أفـراد عـائلة برهـأن . الذى ينتمى والد عـبد الجـبار.. زوجهـا إليها. وطلبـت منهـم الوقـوف بجانبـه وقفـه الرجل الواحـد ساعـتها .
وذلك فى فـرح سليمان ابن عـمه إبراهيم والعـائلة مجتمعـه وسـط الـدار . . وقـد جلس عـبد الجبار بجانب عـمه الذى مد يده وطبطب عـليه .. ثـم جذبـه ناحيته .. متوددا . وعـلامة منه عـلى الموافقـه .. وقـال :
ـ كبرت ياعـبد الجبار .. وبقيت عـريس .. أن شاء اللـه نفرح بيك قريباً .
فـردت والـدتـه :
ـ أن شاء اللـه نفرح به مرتين .. الأولى بالعـروسه .. والتا نيـه بالعـموديه .. يـا شـيـخ إبراهيم .
ـ آه .. واللـه معـك الحـق .. ربـنـا يحـمـيـه ويـصـونـه .
قـال ذلك ولاذ بالصمـت . ككل الحاضرين . إلا أنها بعـد ما قالتهـا .. استطلعـت بناظريهـا وجوه الذين لاذو بالصمت .. ربما للمفاجأه .. وربما انبهـارا بالفكره .. وخاصة انها صادرة من الحاجة زينب بما لها من هـيبة واحترام بينهم .. وخاصة أن الحاج إبراهيم أبدى موافقته .
وقطع الحاج إبراهيم الصمت قائلا :
ــ وليه لأ.. هيه عـيله برهان قـليله فى البلد .
ومن تلك اللحظه .. وجدت الفكره .. أرضا خصبه .. لكى تنمو وتترعـرع فيها .
وسعـت الحاجة زينب حثيثا فى تنفيذها . فحرصت عـلى أن تزوج بناتها الخمس كل واحدة منهن فى عائلة كبيرة من عائلات البلد .. كما سعـت فى تزويج عـبد الجبار نفسه من عائـلة ابو سـعـيد أكبر عـائله فى القرية . والذى أنجب منها وفيق.. إلا أنها ماتت بعـد الولادة بأيام قليلة متأثرة بحمى النفاس . وبعـد عـامين زوَّجته من عـائلة ريحأن .. وكانت حريصة عـلى أن تسترضى عـائلة أبوسعـيد قبل أن تقدم عـلى الزيجة الثانية حرصا عـلى استمرار أواصر المودة والمصاهرة معهم .
بل دعـتهم لحضور العـرس .. وحضروا جميعا . وأنجب من زيجته الثانية ابنة سماها زينب ..عـلى اسم والدته . الذي لم يمهلها القدرلترى حلمها يتحقق.. فماتت بعـد زواجه الثانى بعـامين ..وقبل وفاتها وهى عـلى فراش المرض.. جمعـتهم حولها وقـالـت :
ــ مش ها نام فى قبرى مرتاحه .. إلا لما أشوفك عـمدة البلد يا عـبد الجبار.. وأوصيك باخواتك ورجالتهم .. خليهم عـزوتك وأقرب الناس إليك هما وأولاد أعـمامك . أهلك حتى لاتهلك . ثم وجهت حديثها للبنات قائلة:
ــ أخوكم فى عـنيكم .. هو سندكم فى الدنيا .. ولن يكون لكم غـيره .
ولأنه كان يستشعـر فى أخته شهيره .. أكبرهن . نفس صفات أمه . كانت الأكثر قربا منه ..وهى بطبيعـتها كانت أكثرهن قربا منه وميلا له وحرصا عـلى استمرار الود بينهما .
كما استشعـر فيها الحكمة فكان يستأنس برأيها كلما احتاج إليه . وكان كثير التردد عـلى بيتها .. هى وسميره الصغـرى. الا أن ذلك لم يكن أبدا عـلى حساب عـلاقاته بأخواته الأخريات سعاد وشفيقة وإكرام . فلم تكن تمضى مناسبه أوعـيد الا وكان موسم كل واحدة منهن عـندها ونفس الأشياء لكل منهن . واذا أعـطى لولد من أولاد أى منهن جنيها .. فلكل ولد من اولاد الأخريات مثله. وحرص عـبد الجبار أكثر بعـد موت والدته .. عـلى توطيد عـلاقته بكل الأهل والأقارب وحتى الجيرأن . فلم تكن تأتى مناسبة فرح أو مأتم إلا وتصدر القائمين عـليه .. متلقيا التهانى فى الأفراح والتعازى فى المآتم .. مجاملا ومقدما العـون عـند الحاجه ودون أن يطلب منه .. فأحبه الناس . حتى اذا توفى شيخ البلد .. وبالرغـم من أن عـمره يومها لم يكن يزيد عـن الثلاثين عاما.. إلا أن العـمدة ومأمور المركز لم يجـدا خيرا منه لتعـيينه شيخا للبلده .
ليلتها وقد اجتمعـت أخواته حوله هـن وازواجهن وكانت شهيره بجواره كعادتها وقد انصرف المهنئين والمباركين نظرت إليه وعـلى وجهها ابتسامه الرضى.
قائلة :
ـ أول خطوه .. لتحقيق حلم أمك .. يا عـبد الجبار .
رنا إليها .. وابتسامة شاردة عـلى شفتيه .. سارحا بفكره إلى غـد قـد لايأتى .. وماض قد ولى بكل حسناته وسيئاته . وبعـد برهه قـــال :
ـ بكره فى عـلم الله ياشهيره .. سبيها لله .. وليس شيئا عـلى الله بكثير.
ــ 3 ــ
تقدم عبد الجبار بأوراق ترشيحه للعمودية . وعندما عاد إلى بيته جلس أمامه . والتف حوله الأهل والأنصار . فقد اقترب الحلم من أن يصبح حقيقه .. وعائلة برهأن .. سوف تصبح عائله العمدة .. وكان كل هم المجتمعون وتفكيرهم فى من سوف يتقدم منافسا لمرشحهم .
ـ احتمال عبده ابو سليمان هو اللى هايترشح.
ـ بيقولوا أخو المرحوم العمده هو اللى ناوى يترشح.. علشأن العمودية ماتطلعش من العيله .
فيرد علــيــه آخــر :
ـ ياشيخ .. ده كبير فى السن . . ورجله والقبر .
ـ آهــم بيقولــوا كــده .
إلا أن عمه إبراهيم حسم الأمر قائلا :
ـ يترشح اللى يترشح .. وكبارعائلات البلد برضه لهم كلمتهم .. وأن هم ما حسموش الأمر .. تبقى صناديق الانتخابات تقول كلمتها .
قال أحـد الجـالسـين :
ـ قصدك إيه يا عم إبراهيم .
ـ قصدي كبار عائلات البلد يقعدوا مع بعض .. ويختاروا واحد من المترشحين .. واللى يختاروه الباقى يتنازل له .. إحنا مش عايزين انتخابات.. الانتخابات مابيجيش من وراها إلا المشاكل والخلافات والبلد ماعدتش مستحملة مشاكل وخلافات .
ـ والله عـداك العـيب ياشيخ إبراهيم .
ورد آخــر :
ـ والله فكره .. هو احنا نسينا اللى حصل الانتخابات اللى فاتت، لما حصلت معارك ومشاكل بين العائلات . والا اللى حصل فى البلاد اللى حوالينا .
أمـن الجلـوس عـلى هــذا الرأى .
كل هذا الحوار وعبد الجبار .. يستمع دون أن ينبس بكلمه ، وعندما وصل إلى هذا الحد . أمن على القول الفصل . إلا أنه بينه وبين نفسه تسائل كيف لهذا الأمر أن يتحقق ؟ . وطرأت على ذهنه فكرة .
أن يجتمع من كل عائله من عائلات البلده كبيرها عـلى هيئه مجلس عـرفى لاختيار واحد من المرشحين .. عـلى أن يدفع كل مرشح مبلغ كبير من المال فى البداية كرهن لضمأن التزامه بما يراه المجلس .. ومن يتمرد عـلى رأى المجلس يغـرم المبلغ المدفوع .. بالإضافة لوقوف البلد كلها ضده .
فمال عـلى عـمه إبراهيم وطرح عـليه الفكره . فاقتنع بها .. وأن تمهل لحظات ..قال بــعدهـا :
ـ كلام جميل ..عـلى كده نستنى لما نعرف مين المرشحين الأول وبعـدين نطرح الفكره عـلى عائلات البلد..وأن شاء الله ربنا يوفق لما فيه الخير.ويولى من يصلح .
واتفق الجلوس عـلى ذلك .. وقاموا منصرفين كل إلى داره .
بعد انصرافهم دخل عبد الجبار حجرته .. واسترخى بجسده الطويل عـلى الفراش .. وأغمض عينيه.. وأخذ يقلب الفكره فى رأسه .. هل يضمن أصوات العائلات الخمس المتزوج بها أخواته البنات ؟ ..
ـ ليه لأ .. اليسوا هم نسبائه وعـزوته وبينهم وبينه كل المودة والاحترام .
وكم بينهم من مصالح مشتركه .. والعائلتان أصهاره هو كمأن .أهل زوجته المرحومة والحالية .. أن لم يقفوا معه فى يوم كهذا فمع من يقفوا ؟! بقي مين من عائلات البلد تلات أوأربع عائلات . كل ما شغل باله من هذه العائلات هو عائلة أبو سليمان.. فقد أسرت له أخته شهيرة من مده بأنها رأت إحدى بناتها .. وترى أنها عـلى قدر من الجمال يناسب عمدة القرية الجديد . إلا أنه تريث فى الأمر وطلب منها عـدم إثارته إلا بعد أن يصبح العمدة حتى لا تحدث مشاكل مع أهل زوجته الحالية .. وفى هذا الوقت بالذات .. إلا أنها أخبرته أنها سوف تتودد إلى البنت وأهلها.. وتلمح تلميحات لاتحاسب عـليها حتى تضمن ولاء أهلها له . فوافقها عـلى هذا الرأى وأن طلب منها الحرص الشديد .
إلا أن عـبد الجبار رأى أنه بإمكانه ضمان الأغـلبية المطلقة فى صفه إن أحسن مغازلة كل كبير عائله بأن مصالحه ومصالح عائلته سوف تكون نصب عـينيه أن حصل عـلى تأييده . عـلى أن يكون هذا الأتفاق بشكل سرى لايعـلم به أحد من منافسيه فيفعل معهم نفس الشىء . عـلى أن يستعين فى إتمام ذلك الأمر بعمه ومن يتوسم فيه الكتمأن من أصهاره ونسبائه .
وكما خطط عـبد الجبار وعـمه وأخته .. تمَّ اجتماع المجلس العرفى للقرية.. وذلك فى المسجد الكبير كمكان محايد .. من كبير كل عائلة بالإضافه إلى شيخ الجامع ومأذون القرية وشيخ الخفراء ومساح القرية عـلى أساس انهم من المهتمين والمسيرين لشئون القرية . بالإضافه إلى حشد كبير من الأهالى . ورأس الإجتماع الشيخ عـبد العزيز إمام المسجد .. وبعـد أن طلب من الجميع قراءة الفاتحة قال :
ـ الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا نهتدى لولا أن هدانا الله .. وأما بعد فقد أمر الله بالشورى فقال فى كتابه الكريم " وشاورهم فى الأمر " كما حض رسوله الكريم عـليها بقوله فى الحديث الشريف "وأمرهم شورى بينهم " فالشورى مبدأ إسلامى ثابت بصحيح الكتاب والسنة.. وأخذا بهذا المبدأ الإسلامى الكريم نجتمع اليوم لإعلائه والأخذ به من خلال هذا المجلس العـرفى أو مجلس شورى القرية الذى يمثل فيه كل عائلات القرية وأصحاب الرأى فيها . وقد تم الأتفاق عـلى التعهد بالإلتزام بما يصدر عـن هذا المجلس والذى سيخرج عـن الإجماع سيتم تطبيق الشرط الجزائى عـليه وهو عـدم رد مبلغ التأمين إليه بالإضافه إلى ذلك .. سوف نتعاهد جميعا .. عـلى الوقوف ضده فى الإنتخابات إذا قدر إجرائها .. وذلك لأن من سيخرج عـلى إجماع القرية يكون آثم قلبه .. فيد الله مع الجماعـة .
وبدأ التصويت عـلى كل مرشح من المرشحين سريا. وذلك بأن جلس الشيخ عـبد العزيز فى حجرة الإمام .. وكل من له حق التصويت يدخل عـليه ليسجل إسمه تحت إسم المرشح الذى إختاره . وأقسم بالله عـلى ألا يبوح بأسرارهذا التصويت لأى مخلوق بعـدها حتى لا تحدث مشاكل بين العائلات بعضها وبعض . ولكل كبير عائلة صوت واحد..وكان عـددهم اثنى عـشر شخصا بالإضافة للأصوات الأربعة الأخري. وانتهى التصويت إلى حصول شقيق العمده الراحل عـلى ثلاثة أصوات .. وعـبده أبو سليمان عـلى صوتين .. وحصول عـبد الجبار عـلى بقيه الأصوات . وبعـد انتهاء التصويت .. صعـد الإمام المنبر ووقف عـند الدرجة الثالثة منه . وبعـد أن حمد الله وأثنى عـليه قال :
ـ أن هذا اليوم .. يوم تاريخي .. بالنسبة لنا جميعا وإننى من عـلى هذا المنبر وقبل إعلان النتيجة أؤكد عـلى ضروره الإلتزام بكل ما تعهد به كل مرشح حتى لاتكون هناك فتنة .. وبمجرد إعلان النتيجة أرجو من المرشحين اللذين قد لا يوفقان أن يتقدما للمرشح الفائزمعانقين مهنئين ومؤكدين له عـلى أن يكونوا معه يدا واحدة إن شاء الله . والآن أعـلن لكم الفائز بمشيئة الله .
إيها الأخوه الفائز هو .. عـبد الجبار .
عـند ذلك حدثت همهمه وبدأت بعض الأصوات تعـلو معـلنة ارتياحها .. وصفق بعـض الرجال .. وأخذ التصفيق يتزايد حتى شمل كل الموجودين بالمسجد . فلم يجد المرشحأن الآخرأن امامهما بدا من أن يتقدم كل منهم إلى عـبد الجبار مهنئا ومعانقا .. واستمر التصفيق وتصاعـد حتى تم للاثنين معانقه عـبد الجبار .. ونزل الإمام من عـلى المنبر، وعلامات الارتياح تكسو وجهه.. والابتسامات تعـلوا وجوه الناس .
ــ 4 ــ
ما إن أعـلن فى القرية أن عـبد الجبار أصبح العمدة .. حتى عـمت الأفراح عائلة برهان .. عـلى وجه الخصوص . والقرية عـلى وجه العـموم . وبادرت عـائلات القريه كلها بمباركة عائلة برهان .. وتقـديم الهدايا المناسبه لهذا الحدث .. فمن قام بذبح عجل أمام منزل العمدة لحظة وصوله من المركز بعد صدور القرار الادارىومعه تليفون العمدة .. ومنهم من أطلق النيرأن ابتهاجا .. وتم اعداد الطعام لكل الموجودين .. بعد إحضار طباخين من المدينه القريبه خصوصا . واستقبل العمدة الجديد المهنئين من أهل القرية والقرى المجاورة فى المضيفة التى كان يجلس فيها هو وشيخ الخفـر .. ورصت الأرائك الخشبية أمام الدار بطول الشارع .. واصطف الجلوس يستمعون للمتبارين فى إلقاء المواويل والأغانى الشعبية .. والراقصين فى ليلة صيفية .. اكتمل فيها القمر .. وسادها نسمات لطيفة شجعت الناس عـلى السهر.
وبعد انتصاف الليل بقليل .. استأذن عـبد الجبار من المحيطين به .. وتأبط ذراع عمه الشيخ إبراهيم واصطحبه إلى الداخل .. فى حجره نومه وأرسل فى استدعاء أخته شهيره .. وجلس الثلاثه .. وابتسامه الرضى تعـلوا الوجوه.. والفرحة تهز النفوس .. حتى بدأهم عـبد الجبار قائلا :
ـ راحت السكرة .. وجاءت الفكرة .
ـ خير .. سكره إيه.. وفـكرة إيه .
قـــال ذلــك عــمـه إبراهيم :
ـ أقصد اننا لازم نرتب أمورنا .. من هنا وجاى .. عـلشأن تمشى الأمور بشكل كويس .. والعمودية اللى دخلت عيلة برهان ماتخرجش منها تانى ياعم إبراهيم .. دى ناحية .. والناحية التانية العمودية لازمها شوية حاجات كده .
قالت شهيرة :
ـ ذى ايه .
ـ دار كبيره تناسب العمده .. والا إيه ياعم إبراهيم ؟.
ـ وماله يا ابنى .. الأرض الفاضية كتيرة فى البلد .. بس عايزك تبنى دارك هنا .. وسط العيله .. عـلشأن كلنا نكون حواليك .
قالت شهيرة :
ـ أنسب مكان .. الأجرأن اللى فى أول الحارة .. كلها أرض وقف .. حط ايدك عـلى المساحه اللى انت عايزها .
ـ بس يابنى عايزك تتمهل شويه .. عـلشأن الناس ماتقولش ماصدق بقى عمدة وبدأ يحط ايده عـلى الأراضى الوقف .
ـ كلامك زين ياعمى .. نمشى الأمورشوية بشوية .. وليكن بعد ستة شهور ولا سبعة نبدأ فى البناية .
ـ وبعد البناية .. أن شاء الله تكون مع الدار الجديدة .. العروسة الجديدة .
ـ عروسة مين ياشهيرة .
ـ رقيه بنت عبده ابو سليمان .. ياعمى .
ـ والله فكره .. يابت ياشهيرة . وأهو منها البنت حلوه.. ومنها نرضى عيلة أبو سليمان .. وخاصة إنهم كان عـندهم أمل فى العموديه .
ـ كــلام زيـن .. اتـفـقـنا عـلى كـده .
ـ عـلى خـيـرة الـلـه .
وعـندما هم العم إبراهيم قائما .. وضع عـبد الجبار يده عـلى كتفه الأيمن .. معـيدا إياه لمجلسه برفق .. قائلا :
ـ عم إبراهيم .. أنا مـش هاقـول لك مـتـشـكرين .
ـ متشكرين عـلى إيه .. ده أنت ابنى . وقام من مجلسه واحتضه بقوه قائلا :
ـ ده أنت ريحه أبوك الغإلى الباقية عـلى وش الدنيا .
ـ وعهد عـلى ياعـمى إنك تكون دايما كبير العيلة وسيدنا كلنا .. وأن أكون ذى ابنك الصغير .
ـ لا .. لا.. ياعـبد الجبار .. أمور العمودية ده شغلك إنت .. يابنى وأنت قدها وقدود . ولن أبخل عـليك برأى أو مشورة عـندماتطلبها . أما أمور العـيلة فذلك حقى أنا ولن أتنازل عـنه . قال ذلك وهو يرفع سبابته ضاحكا .
وضحكا جميعا وخرجا كلا إلى داره تاركين العمدة ليخلد للراحة بعد يوم طويل بدأ مع أول اشراقة للشمس . وسرعان ماحضرت زوجته أم هاشم .. وأغلقت الباب خلفها .. لتقدم للعمدة الجديد .. تهنئتها الخاصة .
ــ 5 ــ
أمام الشارع الذى تسكنه عائلة برهان .. أرض فضاء . وبحكم كونها فى زمام العائلة .. كانت تستخدم كأجرأن لهم .. لدرس القمح والأرز .. وتشون بها أكوام قش الأرز والتبن بعد عـملية الدراس .
حقا إنها ملك الأوقاف .. إلا أن العائله لاتدفع للأوقاف شيئا مقابل ذلك .. أو وضع اليد .. الذى لم يكن محددا لشخص معين .
وبعد مرور المدة التى حددها عـبد الجبار لنفسه .. اصطحب عـمه إبراهيم .. وبعضا من أولاد عـمومته .. والشيخ منصور مساح القرية .. والخبير فى وضع الرسومات الهندسية لمن يرغـب من أهالى القرية.. فى بناء بيت له. وقاموا جميعا بمعاينة الأرض الفضاء لاختيار المكان المناسب لبناء الدار الجديدة .. والتى ستكون مقرا للعمودية .
وبعد أن تم ذلك .. وكان الوقت قبل غـروب الشمس فى يوم لطيف الحرارة . أخذ العمدة وعـمه والمساح جانبا.
ـ عايزها سراية .. كبيرة .. ياشيخ منصور. وتكون من دورين وبالحجر. والمطارح واسعة كده وبرحة وعالية الجدرأن .. وآهى الأرض قدامك واسعة .. وكمأن عـايز لها فرانده كبيرة تساعى الناس عـلشأن نبطل قاعده الشارع دى .
وافق الرجلان عـلى كلام العمدة .. وأخذ الركب يتحرك عائدا ناحية دار العمدة .. حيث جلسوا أمامها . وبعد أن أحضر الخفيرالشاى .
قـال العمدة :
ـ هيه ياشيخ منصور.. أمتي تكون جاهز بالرسم ؟
ـ كلها كام يوم أن شاء الله ونبدأ فى البناء .
ـ لأ .. أنا عـايزك تفكر فى رسمه كويسه.. وعـلى ما نحفرالأرض.. يكون الرجال عـملوا كم قمينة طوب وحرقوها.. عـايزها بالطوب الأحمر ياشيخ منصور .
ـ وماله ياعـمدة .. ده كله مايزيدش عـن شهر .. بإذن الله .. ونبدأ فى المبانى .. سيبها عـلى الله .. وعلىّ .
وأنصرف الجمع للعشاء . وبعد أن فرغ العمدة منه .. أقبلت عليه شهيرة وبصحبتها عمها .. وقد عـزمت عـلى فتح موضوع العروس الجديدة .. فدخلوا حجرة نومه وأغـلقوا عـليهم بابها .
ـ مادام الدار وبدأنا فيها .. يبقى نبدأ فى موضوع العروسة كمأن ياعـمده .
ـ وليه العجلة .. ياشهيرة .
ـ لاعجلة ولا حاجه ياخويا .. أقله عيلة أبو سليمان تعاونك فى المبانى .
ـ ياستى .. ياعنى هاتقف عـليهم .
ـ ولـيه لأ يـا بنى ؟
ـ يعـنى أنت موافق ياعـمى ؟
ـ خير البر عـاجله .. ياعـريس .
ـ طيب مش الاصول نعـرف عـيلة أم هاشم الأول .
ـ الأصول يابنى .. أنا هاروح لهم بنفسى وآخد بخاطرهم بكلمتين .
ـ لأ .. لازم أكون معاك من باب الذوق .
قالت شـهـيره :
ـ وأنا كمأن معاكم .. بينا نروح لهم دى الوقت .. والليلة الجايه .. أن شاء الله .. نكون عـند عـبده أبو سليم .
وخرجوا جميعا دون أن يلاحظوا أم هاشم التى كانت تقف عـلى يمين الخارج مستكينة .. كأنما كانت تشعر بما يحدث . حقا لاتستطيع أن تنكر .. أن قـلبها قـد أحس بأن هناك شيئا ما .. يدبر . وخاصة أنها لاترتاح تماما لعمتها شهيره .. كما تطلق عليها .إلا أنها نظرا.. لما تعرفه من قربها لزوجها لزمت جانب الحذر .. فى تعاملها معها .. ولم تظهر لها إلا الـود وكل مظاهر الترحيب والإحتفاء بها عـند لقائها فى أى مكان . وعـندما وصل إلى سمعها بعض الهمس عـن تزويج العمدة .. ازداد وجدها عـليها . فلماذا تحضر لها ضره ؟! ومادخلها هى ؟! أترضى لنفسها ذلك الوضع ؟! .
إلا أنه رغـبة منها فى استمرارالحياة هادئة .. وكعادتها.. تميل دائما لترك الرياح تمر .. حتى لاتنكسر أمامها .. وأهو زوجها برضه مهما كان . استكانت لذلك .. وهيأت نفسها للأمر وأن كان بها غـضاضة لاتنكرها .
ــ 6 ــ
بعد أن خرج العمدة ومن معه .. جلس عـبده أبو سليمان .. وحده . وقد أخد بما تم .. و حدث و سمعه .. حقا.. الرجل عـمدة القـرية . إلا أن فى قـلبه غـضاضة منه. ولكن والحق يقال الرجل لايوجد ما يعـيبه . وأن كان كبيرا بعض الشىء .. عـن ابنته التى لم تتجاوز العـشرين من عـمرها .. إلا أنه عـمدة البلد . وأين سيجد من هو أفضل منه لابنته ؟ ولكن لم يكن ذلك وحـده .. هو مايشغـل باله ويفكر فيه . فهو فى حقيقة الأمر لايستطيع أن ينكر بينه وبين نفسه.. أنه كان لديه الطموح فى أن يكون هو العمدة .. لولا أن المجلس العرفى اختار عـبد الجبار . وأنه وأن كان قد آثر الالتزام بقـرار المجلس.. الا أن طموحاته ما زالت تتحرك بداخله بين الحين والآخر.. لدرجة أحس معها بشىء ينمو بداخله نحو عـبد الجبار .. شىء لايستطيع أن يدعى أنه كراهيه شخصيه . لكن هناك شيئا ما داخله ضده . شيئاً ما يحـسه أى إنسان.. تجاه أى شخص يقـف فى طريق تحقيقه لأحلامه . فـماذا يفعل الأن ؟ ! وبماذا يرد عـلى الرجل ؟! حقا لقد أبدى أمام زائريه السعادة .. وعـندما طلب الشيخ إبراهيم رأيه .. أنقذه عـبد الجبار قائلا:
ـ لا .. ياعـمى سيب الرجل يفكر .. ويشاور عـيلته .
ـ ها يشاور فى إيه يا عـمدة ؟
ـ لأ .. لأ .. ياعـمى الأصول .. أصول . اليوم الإثنين.. يوم الجمعه أن شاء الله بعـد الصلاة .. تيجى له ياعـمى وتشرب معاه الشاى وتسمع رده .. وأن شاء الله ما يكون إلا الخير .
ـ خير إن شاء الله ياعـمدة . وجد الرجل نفسه يقول ذلك.. مخرجا نفسه من الحرج الذى وجد نفسه فيه .
عـند ذلك وقف العمده .. فوقف الكل معه .. وصافح صهره القادم .. وخرج هو ومن معه .
عـندما وجد أبو سليمان نفـسه وحده .. تنحنح الرجل.. هـرش رأسه.. أسفل الطاقيه البيضاء التى اعـتاد عـلى وضعها عـلى رأسه صيفاً وشتاء وكأنما أراد أن يتأكد من يقظته وانتباهه وأنه لايحلم . ثم اعـتدل فى جلسته عـلى الأريكة ونادى زوجته التى هرعـت إليه وكأنما كانت تقف عـلى الباب . وحكى لها ما حدث .. فارتسمت عـلى وجهها علامات السعاده والرضى .. ولما لاحظت شيئاً ما فى نفس زوجها .. بحكم عـشرتها الطويله معه .. تملكت مشاعـرها وقالت :
ـ وإيه ... قولك ياخويا .
ـ والله ما أنا عارف أقول لك إيه .. عـموما .. أهو الوقت لسه بدرى .. قدامنا يومين نفكر فيهم عـلى راحتنا .. وكمأن ناخد رأى البنت .. ورجاله العيلة برضه .
ـ الرأى رأيك ياخويا ... وأن كنت شايفه أن الراجل مايتعايبش .
رنا إليها صامتا .. ثم قال :
ـ ربنا يعـمل مافـيه الخير .
وتاهت نظراته ..سرح بخاطره .. لما قد يحمله الغد .
ــ 7 ــ
بدأ يموج فى القرية أقوال .. وإشاعات كثيرة .. بعـدما أعـلن عـن نية عـبد الجبار فى بناء سراية جديدة .. والزواج من ابنه عـبده أبو سليمان.. فمن قائل :
ـ وبدأ العمدة فى ممارسة عـموديته .. بالعروسة والسراية .. ياترى بعد شويه فيه إيه تانى ؟.
ـ ياعـم ده عـبد الجبار .
ـ ياجماعة .. ده عـمدة برضه .. ولازمه دار مناسبة. وأكمل آخر .
ـ وعـروسة مناسبة .. تجدد له شبابه .
ـ ياعـنى ياخويا داره كانت مالها .. ثم أن الأرض اللى ها يبني عـليها دى أرض مين . والناس بعـد كده هاتدرس فين ؟.
ـ آهى .. كانت أجران عـيلته وهو حر معاهم .
ـ طيب ياسيدى نطلع إحنا منها .
معـظم الأحاديث الجانبية كانت تبدأ وتنتهى هكذا .. إلا أن مجموعة من أهل القرية .. بالرغم من كل ذلك.. كانت ترى أن الرجل .. حتى الأن لم يفعل ما يؤخذ عـليه .. فلم نسمع عـنه أنه انتهك عـرض أحد .. أو نهب أرضا .. كالعمد السابقين .
إلا أن عـبد الجبار لم يأبه.. بكل ماكان يقال حوله.. وينقله له رجاله وخفره . وبدأت حركه إعـداد المعاجن .. لصنع الطوب اللبن .. ورصه فى قمائن .. وحرقها . وتم حفر الأرض التى سيتم البناء فوقها تأهبا للحظه البدء . وفى كل يوم كان يتوافد عـلى العمل عـشرات الرجال المتطوعـين بالاضافة إلى الرجال المشاكسين .. والمحجوزين فى دار العمدة .. وجاملت عائلات القرية عـمدتها فكانت صوانى الطعام للعاملين تتوافـد من البيوت.. تحملها فتيات العائلات الجميلات.. مما كان يوفر فى موقع العمل نوعا من الحماس و الالفة .. بين الموجودين . ولم يخل الأمر من توافد كبار الرجال فى القرية.. مباركين ومهنئين وجالسين بعـض الوقت لرفع الروح المعنويه للعاملين .. والإيحاء للعمدة بروح المجاملة والمودة .. فكنت تسمع صوت الأغانى الصادرة من العاملين والعاملات .. مختلطة بصوت الأغانى الصادرة من المذياع .. حتى انتهى إعـداد القمائن وحرقها فى وقت قياسى .. وتم وضع الأساس والانتهاء من البناء وبعد ستة أشهر .. لاتزيد . كانت سراية العمدة .. قائمة من دورين عالية شامخة وسط الدور التى حولها .. شاهدا عـلى بداية عـهد جديد . وبدأت مرحلة تشطيبها وإعـدادها للسكنى . ولم يمض غـيرشهرين آخرين.. حتى كانت جاهزة لانتقال العـمدة إليها .. إلا أن عـبد الجبار .. كان قد اتفق مع معـرض موبيليا فى دمياط.. عـلى إعـداد حجرة نوم جديدة.. لزوم العروسة الجديدة .. وكذلك حجرة سفرة .. وصالون .. وبعـد إحضار العفـش تم الانتقال إلى الحياة الجديدة .
ــ 8 ــ
انتقل العـمدة إلى السراية .. واحتفل بعروسته احتفالا يليق به وبها .. وأطعم الطعام ودعا كبار رجال البلدة .. ووجدها فرصة مناسبة لدعـوة مأمور المركز وضباطه .. ورؤساء بعض المصالح الحكومية..التى كثيرا ما يحتك بهم بحكم العمل . وكان يوما مشهودا فى القرية .
وبدأ يمارس نشاطه بعـد أسبوع قضاه عـريسا جديدا.. أغـترف من عـسله مايشاء هو وعـروسته . وأول مافكر فيه بعـدها .. أن جمع أسرته الصغيرة .. وجلس بينهم فى حجرة المعيشة .. التى خصصها للطعام والجلوس لأفراد العائلة أثناء اليوم .. وأخذ ينظر إليهم .. متأملا كأنما يراهم لأول مرة .. ولفت نظره .. أن أبنه وفيق أصبح شابا يافعا .. وتذكر أنه اقترب من العشرين . فقال لنفسه :
ـ إيه ده ياعبد الجبار .. أفتكرت نفسك.. ونسيت إن إبنك كبر.. وبقى عـلى وش جواز.. ده زمأن اللى فى سنه عـندهم عـيال .. ياترى الواد بيقول فى نفسه إيه عـلىّ دلوقتى ؟ آه منك ياعـبد الجبار !! ليه كده ؟! . الواد ده من صغره كده وهو بعـيد عـنى ليه ؟ ليه ياوفيق ياابنى ؟ نادرا ما تقع عـينى عـليه طوال النهار .. ياترى بيعمل إيه الوقت؟ وبيقضى وقته إزاى ؟.ومين هما أصحابه من شباب العيلة ؟
لابد أسأل عـليه الغفـر، أكيد يعرفوا كل جاجه عـنه .
أحس أن فترة صمته قد طالت ... هرش رأسه .. وقال :
ـ تعإلى جانبى ياوفيق.. اللهم صلى عـلى النبى .. ده أنت اللى عـريس مش أبوك .. طول بعرض .. تملى العين.
وأقعده بجانبه عـلى الأريكة وربت عـلى ظهره بحنأن .
ـ هيه.. حاطت عـينك عـلى مين من بنات البلد . شد حيلك كده وقوللى عـليها .. عـلشأن نجوزك عـلى طول .
أحنى وفيق رأسه حياء.. أمام والده .. ولاذ بالصمت.
ـ إيه .. مش عـايز تقول لى .. والا أنت مكسوف من نسوأن أبوك .
" آه يابنى .. منذ ولادتك وأنت يتيم الأم .. لم تشعر بحنأن الأم وعـطفها .. وأكيد مرات أبوك أم هاشم.. ماكانش عـلى بالها . إن شاء الله أختار لك عـروسة.. تعـوضك عـن ده كله . " ثم التفت إلى ابنته زينب .. رنا اليها متأملا .. فتاته التى أصبحت أبنة الثامنة عشر.. عـروسة تملا العين .. طويلة .. بادية الأنوثة .. مليحة الوجه .. صبية بمعـنى الكلمة . والله كبرت عـيالك وأنت ملهى عـنهم يا عـبد الجبار. إزاى البنت دى لغاية دلوقت ماتقدملهاش حد ؟!.أعـدمت القرية شابا يقـدر هذا الجمال؟! ولا إيه اللى بيحصل حواليك ياعـبد الجبار؟ !. تنحنح .. هز رأسه .. والتفت إلى زوجتيه . بدت له رقـيه أكثر جمالا وتألقا من أم هاشم .. فأحس بالزهو .
ـ أنا كنت عـايز أقول يا أم هاشم أنت ورقـية .. ولادى دول ولادكم اللى أنتم ماولدتهومش . وأنت ياأم هاشم .. رقـيه أختك الصغيرة. ومش عـايز أى مشاكل بينكم ولا أسمع لكم حس .. بيت العمدة ماينسمعش له حس. لامشاكل بينكم ..ولا كلام من اللى بيحصل بين الضراير .. مش معقول .. أنا اللى يكون عـلىّ حل مشاكل البلد .. ويكون بيتى فيه أى مشاكل . الكلام ده عـايزه يكون ذى الحلق فى ودن كل واحد وواحده منكم .. مفهوم .
أمن الجميع .. خشية واحتراما .
ـ كل واحدة منكم .. لها حجرتها .. تعـمل فيها اللى هى عايزاه .. بعـيد عـن التانيه .. ومن غـير أى احتكاك بالتانيه .. واللى تعـوز أى حاجة مش موجوده فى البيت .. تطلبها منى أنا . واللهم صلى عـلى النبى .. الشغالين كتير فى السرايه .. ومريحنكم عـلى الآخر . عايز أبقى فايق لشغلى وبس .. البلد همها كبير . خلاص خلص الكلام اللى عـندى . فيه حد عـنده كلام عايز يقوله ؟.
فلاذ الجميع بالصمت .
وعـلى ذلك انتهى الاجتماع العائلى .. وقام العمدة متجها إلى الحجرة التى خصصها لعمله وسماها المضيفة أيضا .. وبها التليفون . أما البلكون .. فهو المكان المخصص للجلسات التى يكثر فيها الناس .. وللصيف عـلى وجه العموم .. حيث يحلو الجلوس وقت مابعد العصر حتى انتصاف الليل .
وبمجرد دخوله الحجرة .. قام الجلوس .. وكان من بينهم خفيره الخصوصى .. ما إن وقع بصره عـليه .. حتى أمسك بذراعه .. واصطحبه إلى ركن بعـيد فى البلكون .. وأجلسه بجانبه فى تودد .. بعـد تمنع شديد من الخفير .. فكيف لة أن يجلس بجوار العمده ؟ !.
فنهره العمده .. قائلا :
ـ اقعد هنا .. أنا عايز أتكلم معاك فى حاجة مايعرفش بها مخلوق .
ـ خير ياحضرة العمده .. أنا تحت الأمر .
ـ الواد وفيق .. ابني .. باين عـليه .. كبر وأنا مش واخد بإلى .
ـ ربنا يخليه لك ياحضرة العمدة .
ـ إيه رأيك .. فكرت أجوزه .
ـ ونعم الرأى .. بالصلى عـلى النبى .. قـرب من العشرين سنة .. وحل له الجواز من سنتين تلاته .
ـ طيب .. ومين اللى تستأهله ياواد ؟ .
ـ كتير .. البلد فيها بنات كتير حلوه . ثم صمت لحظات .. وقال :
ـ هو هايلاقى أحسن من بنت عـمك إبراهيم الصغيره.
ـ امتثال .
ـ أيوه ياعـمدة .. زينة العرايس .
ـ والله عـندك حق ياوله . وادعى التفكير للحظات ثم عاد ليسأله .
ـ بس أنا كنت عايز أعـرف منك .. أن كان هو حاطط عـينه عـلى حد ؟ ولا يعرف حد كده ولاكده ؟.. عـلشأن مكسرش قلب الواد .
بادر الخفير مدافـعا .
ـ لا.. لا ما يعرفش حد .
ـ ايه .. ياواد أنا قصدى أعـرف .. مايعرفش بنات .. نسوأن .. كده ولا كده .. ماهو برضه شاب .. وأنت عارف طيش الشباب وزمانه له لحظات طيش برضه .. يعنى .. بيعمل فيها أيه ؟ .. بتاع بنات .. بتاع نسوأن .. بيشرب جوزه .. بيشرب مخدرات ؟؟ الحاجات دى .. ياواد عايز أعـرف عـنه كل حاجة .. ده ابنى الوحيد وعايز أكون مطمن عـليه .. ويكون تحت عـينى دايما .
صمت الخفير لحظات .. يراجع فيها نفسه .. ولم يعرف كيف يجيب العمدة .. وخاصة أنه يعرف كل كبيرة وصغيرة عـن وفيق والأمين عـلى أسراره . ولما طال صمته .. لكزه العمدة فى صدره وزمجر قائلا :
ـ اتكلم ياواد .. ومش هاعـرفه إنك قلت لى أى حاجه .. ما أنا ملاحظ انكم أصحاب قوى .. عـلشأن تفضل تعـرف كل حاجة وتحكيها لى برضه .. هيه اتكلم .
ـ يعـنى ياعـمدة ..
ـ يعـنى إيه .
ـ هو بصراحه .. غـاوى حريم .
ـ إزاى ياواد .. دى الخصلة اللى مش فى رجالة العيلة كلهم . . يمكن لوكنت قلت لى بيشرب حشيش كنت قلت ذى بعـضه إنما الحريم دى صعبه عـلى قـوى ياواد .
ـ دى واحده .. بس .. هو مرافقها من ورا جوزها .
ـ وكمأن متجوزه .
ـ بس مالهاش فى الخلف .
ـ بتخلف ولا مابتخلفش.. ماهوزى بعـضه .. وبعـدين ياواد .. واحده بس ؟ ولا فيه غـيرها كمان؟ .
ـ هو بصراحه كان فيه أكتر من واحده .. لكن من يوم ماعـرف اللى معاه دى الوقت .. وهو ماعـرفش غـيرها .
شرد بذهنه .." ليه يا وفيق يا إبنى .. كله إلا الزنا .. ده آخرته يا الفقر.. يا العمى . ودايما شيخ الجامع كل ما يقعد معايا يقوللى :
ـ اللى باحبه فيك .. يا عـبد الجبار .. من صغرك وأنت ربنا يحرسك .. بعـيد عـن الزنا . ودى يا بنى سكة آخرتها يا الفقر .. يا العمى أعـوذ بالله . فأحرص عـلى ألا تقع فيه ياعـبد الجبار". هرش رأسه بيمناه .. طلب من الخفير الإنصراف . جلس وحده مهموما .
" يبقى مافيش غـير اننى أجوزه بأسرع مايمكن .. والجواز آهو برضه حمايه " وبينما هو يفكر فى ذلك .. مر عـليه وفيق خارجا .. فناداه .. وأجلسه بجانبه .
ـ أيه رأيك فى امتثال ؟.. بنت عـمى الشيخ إبراهيم .. زينة العرايس . أخذ وفيق .. فلم يحر جوابا .
ـ اتكلم يابنى .. موافق ولا حاطت عـينك عـلى واحده تانيه ؟.. كل شىء ممكن يكون بالغـصب .. الا الجواز لازم يكون بالاتفاق.
ـ اللى تشوفه.. يابا .
ـ مش اللى أشوفه .. اللى أنت تشوفه .. عـلشأن بعـد كده أسمع أنك لعـبت بديلك .. ها أقطعه لك . قال ذلك وهو يرفع سبابته محذرا وينظر إليه بحدة .. أرتعـدت لها فرائصه .. وتيقـن أن والـده يعـرف عـنه كل شىء .
ـ خلاص يابا .. موافق .
ـ فكر ليوم الخميس الجاى .. ليلة الجمعة .. ها أخدك ونروح نطلبها لك من عـمى إبراهيم .. وأن شاء الله نقرا الفاتحه .
ــ 9 ــ
رفض العمدة من البداية أن تكون حظيرة المواشى داخل السراية .. وأصر عـلى أن تكون بجوارها .. مبنى ملحقا بها يكون مدخله من باب جانبى بالسراية . . يوصل إلى ممر قصير.. منه إلى الحظيرة ..وعـلى جانبى الممر.. جداران يمنعان المارة من رؤية الداخل و الخارج . وبأحد الجدارين ..باب كبير .. يسمح بدخول المواشى وخروجها . وسقف الحظيرة .. بعروق خشب وعيدأن الغاب وقش الأرز . بحيث لاتسمح لأحد بالمرور فوقها . وكان قد اشترى حصانا .. ودوكاراً. لزوم تنقلاته .. وذهابه إلى المركز. حتى لايضطر إلى ركوب قطارالدلتا .. الذى لايحفـظ للراكب إحترامه وهيبته من شده الزحام . وخص واحداً من الأنفار التى تعمل لديه.. للعناية بالحصان والإهتمام بالدوكار ونظافتهما .. وقيادته فى حالة الحاجة إليه . ويحتفظ بالدوكار فى المخزن الذى يتم فيه تشوين .. متطلبات الحظيرة من غـذاء للحيوأن وخلافه . واختص أنشط خفره .. بالحراسة الليلية للسراية وملحقاتها .
وإن كان عـبد الجبار .. واثقا تمام الثقة من استتباب الأمن فى القرية . ولا يتصورأن يوجد من بين أهلها .. مهما كانت جسارته وجرمه من يفكر.. مجرد تفكير .. فى السطو عـلى سراية العمدة أو حظيرة مواشيه . إلا أنه خصص لها خفيرا من باب الوجاهه .. ليس إلا . ومع إنه تنامى إلى مسامعه .. من بعـض المترددين عـلي مجلسه .. حدوث بعض الحوادث الصغيرة .. كسرقة بعـض الأشياء البسيطة .. جوال أرز .. أو جوال قمح مثلا من إحدى الدور . وغالبا ماتكون دور أناس ميسورى الحال . فلا يشكون إليه لبساطة السرقة . كما أن الخفر لايبلغونه لتفاهتها . من ناحية .. ومن ناحية اخرى .. حتى لا يعرف أنهم مقصرون فى عـملهم .
وعـندما كثرت هذه الحوادث .. فكر فى أن يستخلص بعـضا من الرجال والشبأن الذين يعملون عـنده .. وخاصة من يتوسم فيهم الإخلاص والطموح .. ويقربهم إليه من بعيد لبعيد .. حتى لايعرفهم أحد . لإخباره بكل صغيرة وكبيرة تحدث فى القرية . فكيف يكون العمدة ولا يعرف دبة النمله فيها ؟!. واتفق معهم .. إذا كان لدى الواحد منهم مايريد إبلاغه به بشكل عاجل .. فما عـليه إلا أن يمرعـليه حتى لو كان فى وسط الرجاله .. ويقول :
ـ السلام عـليكم .. يا أبو وفيق .
عـندها سوف يفهم .. ويتصرف ليختلى به ليسمع منه ما عـنده .. وحرص قدر الإمكان ألا يعرف أى منهم الآخر.. حتى يكون كل منهم عـينا عـلى الآخر أيضا . ولم يكتف بالرجال .. بل طلب ذلك أيضا من بعـض النساء .. اللاتى توسم فيهن القدرة عـلى القيام بذلك بسهولة ويسر.. كبائعة الجبنة .. وبائعة الطيور . حيث يتيسر لهن دخول البيوت .. ومخالطة النساء فى الأسواق .. وحتى فى أى مكان وتعرفـن منهن الخافية . وعـلى ذلك لم يكن العمدة يخلد للنوم .. الا بعد أن يعرف من مصادره الخاصة .. كل مايعـن له معرفته من أمور القرية .. وأهلها . وخاصة عـن أقربائه وخلصائه وكبار العائلات .
ــ 10 ــ
بعد أن خلا منصب شيخ البلد .. الذى كان يشغله العمدة .. أصبح عـليه .. أن يختار واحداً من رجالته ليشغله. وفى غـمرة الأحداث التى مرت .. بعـد توليه العمودية .. أجل التفكير فى هذا الموضوع . إلى أن اتصل به ضابط مباحث المركز.. طالباً سرعـة إختيارالرجل الذى يراه مناسبا.. والحضور لعـرض الأمر عـلى السيد المأمور لإنهاء هذا الأمر.
لقد فـكرفى عـمه إبراهيم .. وهل سيكون هناك أفضل منه ؟!. وعـندما عـرض الفكرة عـلى اخته شهيرة .. تلك الليلة . عـندما حضرت بعـد العشاء .. سكتت لحظات.. وقالت :
ـ بقى ياعـبد الجبار .. عايز تخللى عـمك إبراهيم.. كبير العيلة وأكبر راس فيها يبقى تحت أمرك ونهيك ؟!.. مش عـيب عـليك ياراجل ؟؟!!.
بهت عـبد الجبار .. فلم يخطر بباله هذا الأمر .. ولم يفكر به بهذا الشكل إطلاقا . إنما أراد أن يكافئه عـلى مابذله معه من جهد .. والله أعـلم بما فى نيته وضميره . لكن هل يمكن لعمى إبراهيم أن يفكر بهذا الشكل ؟
ـ معقول كلامك ده .. ياشهيرة ؟.
ـ ومش معقول ليه ياخويا . وإستطردت :
ـ أقولك حاجه .. كلمة . قول له إنك عايز تختار شيخ بلد وأطلب رأيه .. وشوف كلامه .. يمكن يكون له رغـبه.. وإلا يكون مابيفكرش زى ما أنا فكرت .
ـ لأ..أنا وأنت ها نروح له دى الوقت .. ونتكلم معاه.. ونشوف رأيه ورأى ولاده .
وبعد أن جلسوا بعـض الوقت .. وعـند خروجهم .. والحاج إبراهيم يسير معهم مودعا .. قال له العمدة :
ـ المأمور طلب منى تعيين شيخ للبلد .. وعايز أعـرف رأيك.. مين الأنسب لها ؟.
صمت الرجل قليلا .. مفكرا .
ـ أيه رأيك ياعـمده .. فى عـبده أبوسليمان.. آهو الرجل بقى نسيبك .. وكان عـنده طمع فى العمودية .. وآهى خطوة .. برضه يمكن تريح نفسيته شويه .
مدت شهيره يدها وضغـطت عـلى ذراع أخيها مستتره بالظلام .. ضغطة فهم المقصود منها . ورغـم ذلك أصر أن يكون كلامه أكثر وضوحا .. حتى لا يلام مستقبلا.
ـ يعنى ياعـمى مافيش حد فى العيله يكون له رغـبه.. يعـنى تكون أنت شايف أنك أولى بيها ؟.قال ذلك وهو يضغط عـلى الحروف .
ـ لأ . قالها قاطعة .. وكأنما يريد أن يقول له أنه فهم مقصده .. ثم أكمل .
ـ يعـنى تبقى العمودية معانا .. ونبص لمشيخة البلد .. ازاى بس يابنى .
ـ وأنت شايف .. يعـنى أن عـبده أبو سليمان أنسب لها من أى حد تانى . قال ذلك كأنما أراد أن يبين أنه غـير متحيز له لأنه نسيبه فقط .
ـ فكر معايا كده .. مش هاتلاقى أنسب منه لها .
ـ خلاص .. ماشى عـلى البركة. واللى فيه الخير يقدمه ربنا .
وتفرقوا كل إلى داره .. حتى إذا وصل السراية .. وجد لديه الرغـبة فى الجلوس بعـض الوقت .. وحده فى البلكونة .. وخاصة لما لاحـظ عـدم وجود أحد .
" عـندك حق ياشهيرة .. أما البت دى عـليها أفكار.. والله أنا ماكان يخطرعـلى بإلى ..اللى حصل ده ..عـموما.. خير اننى أخدت رأيها ولم أتسرع . طب وعـبده أبو سليمان ده حكايه تانيه .. ماهو باقى النسايب والقرايب .. وخاصة أهل رجالة أخواته البنات ها يقولوا.. واحنا كان أيه يعيبنا ؟.. ولا يعـنى مافيش حد فينا ينفع ؟. ولا هى دى أخرة خدمتك ياعـمدة ؟.. إيه أخرة وجع الدماغ دى؟.
ماهو الواحد برضه .. لازم يعمل حساب لكل ده..عـلشأن ماحدش يزعـل ." وأخذ يقلب الأمر فى رأسه.. ويستعرض كل الرجال من القرايب والنسايب .. واحدا بواحد .. ولم يجـد بالفعـل أنسب من عـبده أبو سليمان لهذا الأمر .
تأخر به الوقت وحده . عـندما أدرك ذلك .. نهض من مجلسه متجها إلى الداخل .. ودون أن يدرى وجد قـدماه تقـودانه إلى حجرة زوجته .. رقية أبنة عـبده أبو سليمان .
ــ 11 ــ
يوم أن تم تعيين عـبده أبوسليمان شيخا للبلده . جلس العمدة فى البلكونة .. بعد انصراف رجاله .. ومسامريه . وقد سكن الكون حوله .. رجع برأسه إلى الخلف .. مسندا اياه إلى الحائط خلفه .. أغـمض عـينيه قريرا .
" إيه ياعـبد الجبار. أنت وبقيت العمدة .. شيخ البلد وبقى صهرك .. وشيخ الخفرخاتم فى صباعـك.. هو وجميع خفره .. كبارعائلات.. بين مؤيد وخاطب للود . يعـنى كل البلد.. بقت ملك بنانك تفعل بها ما تشاء ."
فتح عـينيه .. إلتفت حواليه . انتفض من مجلسه .. تحرك حتى أقترب من سور البلكون.. المطل عـلى الحى التى تسكنه العائلة .
أستند بمرفقيه عـلى السور.. رنا بناظريه ناحية القرية .
" إيه ياعـبد الجبار.. بقيت الكل فى الكل .. الشورة شورتك ..والرأى رأيك ". رفع رأسه .. ملأ صدره بالهواء.. وأخذ يزفره فى تأن وتيه . ضرب بكف يمناه عـلى صدره فـوق قـلبه .. فى رضا وتباه .
" كل ما عـليك من هنا وجاى .. أن تحرص عـلى رضا الكبار.. حتى تضمن استمرار الولاء لك .. ولا مانع من أن تغمض عـينيك بعـض الشىء.. بين الحين والآخرعـما قد يفعلوه . يعنى هايعملوا إيه .. ديتها واحد يطمع فى حتة أرض خلا من بتاعة الأوقاف ..ولا حتى اتنين .. ولاحتى كل عـيلة تاخد لها حته .. فيها إيه . حتى أنا ماعـنديش مانع أحدد لكل عـيله حته أرض . وحسب رضاى وقربها منى . وده بعد أن أخد أنا اللى عايزه الأول. أمال إيه .. ياعـنى هما ياخدوا وأنا قاعـد أتفرج عـليهم أنا وعـيلتى . الواد وفيق وبكره يبقى أب .. ولازم الواحد يأمن له مستقبله هو وأولاده .. وكمأن إخواته .. وأعـمامك وأولادهم . والأهم من ده كله .. رقـية وبقت حامل .. وبكره تجيب لها عـيل .. وعايز تأمن له مستقبله ذى أخوه. ومفيش مانع أكتب حاجه باسمى والباقى باسم وفيق .. وزينب . كل واحد ياخد نصيبه ويكون الكل مرضى . أمال إيه ياعـبد الجبار.. أما الرجال والأتباع ومنفذى الأوامر.. فلا مانع من إغـماض العين عـنهم بعض الشىء.. لكن بحساب . حتى لا يتجاوز أى منهم حدوده . أو يفـلت زمامه" .
تحرك من وقفته .. وكله إحساس بالإمتلاء .. زهوا.. سعادة .. غـنى ..سار حتى وصل إلى الدرج المؤدى إلى الشارع . وجد نفسه يخطو بتأن حتى خرج من السراية .. وبعد عـدة خطوات.. أحس به الخفيرالمكلف بحراسة السراية .. فأسرع اليه .
ـ السلام عـليكم ياحضرة العمدة .. إية أوامر ؟ .
لم يجب عـليه .. نظر اليه فى صمت .. ظل فى سيره المتأن . والخفير خلفه .. رهن الإشارة .. حتى إذا ابتعد عـن السراية .. طلب من خفيره العودة . واستمر فى سيره ناحية القرية .. حتى إذا اقترب من داره القديمة .. وجد شيخ الخفرواقفا مع أحد خفره .. حتى اذا رأياه أسرعا إليه.. مبديان الدهشة والولاء .
ـ خير يا حضرة العمدة .. أوامرك ؟ .
ـ لأ .. مافيش حاجة .. مش جاى لى نوم ..قلت أتمشى شويه .. أشوف البلد .. أحوالها إيه .
ـ الكل نايم فى أمأن ياحضرة العمدة ..والبلد عال العال وكلها طوعك وتحت أمرك .
وسارا معا .. وبقى الخفير فى دركه . حتى جالا فى الحى كله .. وعادا أدراجهما ..وهو تارك أذنيه لشيخ الخفـر .. الذى ظل يتحدث عـن إحساس الناس بالأمن والرضى .. وأن كل فرد يعمل فى حاله ودون إية مشاكل.. كل مافى الأمر أن فيه شوية شباب صغيرين ماعـندهمش إحساس بالمسئولية .. أحيانا يسطون عـلى بعـض البيوت أو المحلات لقلة ذات اليد .. ودى ذى ماحضرتك عارف أمور طبيعية .. ومع ذلك هو والخفر صاحيين لهم قوى .
ـ عارفهم يعنى .. ياشيخ الخفر؟.
ـ فردا .. فردا. وقبل أن يكمل كلامه عاجله العمدة .
ـ وسايبهم ليه .. أقبض عـليهم .. وهاتهم أوضة الحجز فى السراية .
ـ من النجمة .. ياحضرة العمدة . . لأ من الدقيقة دى.
سكت وأوسع من خطوه نحو السراية . قائلا :
ـ مش عايز أسمع عـن أى سرقه تانى .. ياشيخ الخفر.. سلام .
ــ 12 ــ
فى صباح يوم ربيعى .. وبعـد أن تناول الفطور.. خرج إلى البلكونة .. يحتسى كوب الشاى .. الذى تعود عـليه بعـد الإفطار يوميا ، حيث جلس مشغول الذهن بزوجته رقـية .. التى إقترب موعـد ولادتها لأول مرة .. ويمنى النفس.. بأن يكملها الله عـليه بالستر..ويرزقه بالولد . كما أنها أمنية زوجته ايضا.. حيث يعـلم تماما أنها تريد الولد .. ليكون لها السند فى دار العـمدة . وبينما هو كذلك .. إذ إقتحم عـليه خلوته خفيره الخصوصى .
ـ صباح الخير ياحضرة العـمدة . فنظر إليه شارداً .
ـ فيه واحد أفندى.. بيقول إنه مندوب الأوقاف .. وعايز حضرتك .
ـ خليه يتفضل . وقام من جلسته يستقبل الضيف . وبعد أن جلس طلب له الشاى . وبعـد أن تبادلا كلمات المجاملة والسلامات .. سأله عـبد الجبار :
ـ خير أن شاء الله .
ـ أنا مندوب هيئة الأوقاف..وجاى أحصل إيجارأراضى الأوقاف من المستأجرين .
كانت معلومات العمدة عـن هذا الموضوع محدودة إلى حد ما .. حيث لم يكن يعرف .. مساحة الأرض الفضاء التابعة للأوقاف .. والأخرى غـير التابعة .. وكم قطعة أرض للزراعة .. وهل يدفع عنها إيجار.. ومن هم المستأجرون لها ؟ وهل كلها مؤجرة ؟. أم توجد أراض غـير مؤجرة ؟. وكم كانت دهشته بالغة .. عـندما عـلم أنها أراض كثيرة .. وتوجد أيضا أراض غـير مؤجرة لأحد رسميا .. وإن كان هناك من يزرعـها غـصبا أو بوضع اليد.. كما أن الأراضى الخلاء ..لمن يضع يده عـليها .. عـند ذلك سأل الرجل وهو ينظر إليه نظرة ذات معـنى :
ـ أكيد حضرتك خرجت من بيتك بدرى .. وتلاقيك ملحقتش تفطر. فصفق بيده . حضر الخفير مهرولا .. فطلب منه إعـداد فطور للضيف .. وعـندما هم الخفير بالانصراف .. زعـق فيه .
ـ لأ ياوله .. خليهم يعملوا له فطير مخصوص .. ويعملوا حسابهم فى الغدا كمان . ثم التفت للرجل مبديا مزيدا من الترحيب .
ـ حضرتك بتشرب سجاير .. مش كده برضه . ابتسم الرجل . فنادى نفرمن الواقفين أمام السراية..وطلب منه احضار عـلبتين من أقرب دكان .. بعـد أن ناوله النقود . جلس بجوار الضيف ..لحظات صامتا .. دارت فيها رأسه .
" إيه ياعـبد الجبار .. ياترى تعرف مين بهذا الأمر؟.. وتدارى عـن مين ؟. ولا يجب أن تكون حويطا .. ولاتعرفش حد ؟ ولا تستنى شويه لغاية ماتعرف كل حاجه عـن الموضوع وبعدين تحدد مين يعرف ومين مايعرفش.وإلا ماتعرفش حد إلا بعـد ما تاخد اللى أنت عايزه .. وبعدين تعرفهم وتوزع عـليهم فضلة خيرك ؟ " أفاق لنفسه عـلى صوت الرجل يقول :
ـ شكرا عـلى الشاى يا حضرة العـمدة .
ـ إيه .. يا راجل . لاشكر عـلى واجب . ده أنت اللى تستحق الشكرعـلى أنك شرفتنا فى اليوم الجميل ده . وأقترب منه .. وهو يربت عـلى فخده بيده متوددا .
ـ وأنت حضرتك معاك كشف بكل أراضى الوقف .. المزروعه والخلا ؟
ـ أمال ايه .. واللى مؤجرة .. والغير مؤجرة كمان .. أمال إيه . قال ذلك وهو يفتح حقيبة صغيرة كانت بيده .. ووضعها جانبه عـند جلوسه . وأخرج منها عـدة أوراق .. أخذ يناولها للعمدة وهو يقول :
ـ دى.. الأراضى الزراعـية .. ودى المؤجرة ..وده ياسيدى كشف بالمستأجرين..ودى الأراضى الغيرمؤجرة.. وعـندك فى كشف المستأجريين.. اللي مسدد عـليه علامة صح .. واللى مش مسدد عـليه علامة إكس..وده كشف بالأراضى الخلاء.. ومساحتها . أخذ العمدة يستطلع ما فى الأوراق وهومذهول . وشد ماكانت دهشته ..عـندما عـلم أن العمدة السابق كان يضع يده عـلى معظم الأراضى الزراعـية .. سواء بالإيجار أو بوضع اليد..ولا أحد يعلم عـن ذلك شيئا .. بالرغـم أنه كان شيخا للبلد !!. عـند ذلك أدرك بينه وبين نفـسه أنه سوف يدخل فى صراع مع عائلة العمدة السابق .. وعـلىذلك يجب عـليه أن يطلع أنصاره عـلى الأمر. . فهم من ناحية أدواته التى سوف يقومون بتنفـيذ ما يريده منهم . ومن ناحية تانيه .. هم رجاله وأنصاره الذين سوف يعتمد عـليهم فى صراعه مع عائلة العمدة السابق . عـند ذلك حضر النفر الذى كان قد أرسله لشراء السجاير.. فأخذه تحت إبطه وسار به قليلا مبتعدا عن الجالس ثم همس له :
ـ عايزك زى الفريرة .. تجرى تنده عـمى إبراهيم .. وشيخ الخفر.. وشيخ البلد .. تجيبهم من تحت الأرض . من غـيرما حد يسمع لك صوت . ثم عاد وجلس بجوار ضيفه وهو يعطيه عـلبتى الدخان.لحظات وكان الفطور قـد أعـد . فاصطحبه عـبد الجبار إلى المضيفة .. حيث كان الفطور ساخنا عـلى صينيه وضعت على منضدة وسط الحجرة .. فجذبها العمدة بالقرب من إحدى الأرائك..وطلب من ضيفه الجلوس عـليها قائلا :
ـ أنا سبقتك .. لولا كده .. كنت نلت شرف الفطارمعاك .. وإن شاء الله.. عـلى ماتنتهى من فطارك .. يكون الشاى التقيل جاهز..وعـلى شان ماتنكسفش من حد ها اقفل عـليك الباب . وبالهنا والشفا إن شاء الله .. عايزك تشطب عـلى الصنيه باللى فيها .. هنيئا مريئا. وعاد إلى مجلسه فى انتظار من بعث فى طلبهم .
ــ 13 ــ
أول من حضر.. عـمه إبراهيم .. فقال فى نفـسه " خير أنه جه الأول " وبمجرد دخوله البلكونة .. نادى عـليه وأجلسه بجانبه .
ـ شوف ياعـم إبراهيم .. جوه مندوب من هيئة الأوقاف .. معاه كشوف بأراضى الأوقاف فى البلد .. منها المتأجر واللى مش متأجر .. ومنها الخلا واللى بتنزرع .. وفيه ناس بتدفع الإيجار وناس مابتدفعـش .. وكل ده كان العمدة المرحوم .. طبعا عارفه كويس قوى .. والأراضى كلها .. إما بوضع اليد .. أو بالإيجار له هو وأفراد عيلته.. وشويه من قرايبه. وأراضى الخلا معـظمها لا متأجرة .. ولاموضوع عـليها يد .
سكت يبتلع ريقه .. رنا إلى عـمه يستطلع وقع كلامه عـليه . فوجد الرجل مذهولا مما يسمع .
أكمل عبد الجبار :
ـ ولما لقيت الموضوع كده قلت أبعت لك أنت وشيخ البلد وشيخ الخفر.. نشوف هانعمل إيه.. وإن كنت أنت شايف أننا نبعدهم عـن الموضوع دى الوقت .. مافيش مانع. ولو إننى شايف إنهم لما يعرفـوا من الأول أفضل..وآهو مافيش مانع نرضيهم برضه .. والأول والآخر هما رجالتنا ولازم هانرضيهم .
سكت عـبد الجبار يلتقط أنفاسه.. وأخذ يتأمل عـمه .. الذى شردت نظراته .. وبعـد لحظات .. قال :
ـ عـملت خير.. إنك بعت لهم برضه .. هما رجالتك.. وأن كنا الوقت ده بنلوم عـلى المرحوم.. انه ماعـرفش حد.. حتى أنت لما كنت شيخ للبلد .. فمن الواجب أننا نعرفهم بحكم عـملهم علـى الأقل .. ثم يعنى أنت برضه العمدة واللى هاتعمله ها يرضى به رجالتك . عـند ذلك كان يصعد عـبده أبو سليمان .. وبصحبته شيخ الخفرالسلالم ..تسبقهم نحنحه شيخ الخفر إعلانا بالوصول . وأنضما إليهما .. ومن باب الحرص ألا يعرف أحد شيئا عـما يجرى .. صرف العمدة الخفروالأنفاربعيدا .. بحجج مختلفة .. ووقف الأربعة فى ركن بعيد من البلكونة يتشاورون . وكم كانت دهشة شيخ الخفر كبيرة .. لدرجة أنه أخذ يضرب كفا بكف وهو يقول لهم :
ـ ياخرابى .. وأنا اللى كنت فاكر إننى عارف كل صغيرة وكبيرة فى البلد دى . فنهره العمدة قائلا وهو يرمقه بحدة :
ـ مش ده وقت الولولة ذى الحريم.. ياشرابة الخرج. فلزم الصمت وأحنى رأسه خاشعا خاضعا .. فقال العمدة :
ـ أنا دى الوقت جامعكم..وبعرفكم كل حاجه..عـلشان نكون راجل واحد فى اللى هانعمله .. وأنا فكرت كويس من ساعة ماعرفت .. واستقر عـزمى عـلى الآتى :
ـ الأراضى اللى عـليها إيجار مندفعش للأ وقاف . ننزعها من مستأجريها . . ولو كانت تحت أيد أولاد المرحوم . ونعيد توزيعها عـلينا . واللى بيندفع إيجارها .. وأنا شايف أنها حته ولا أتنين ..باسم إبن المرحوم .. ما فيش مانع نخليها له .. هما يعنى قد ايه .. دى كلها ستة فدادين . أما الأراضى الخلا .. فسوف يقوم شيخ الخفر.. بحصرها ومراجعتها عـلى الكشف اللى مع الراجل والتأكد من عـدم وضع اليد عـلي أى حتة منها .. واللى واضع أيده عـلى أى حته منها ..بأى شكل .. تلاقيه مش دافع عنها إيجار .. وده ينطرد منها.. ونقوم إحنا بتوزيعها من جديد .
عـند ذلك كان مندوب الأوقاف .. قد خرج عـليهم .. بعد أن أنتهى من إفطاره وشرب الشاى . فما كان من العمدة إلا أن عـرفه عـلى الحضور .. الذين رحبوا به كل بطريقته .. وبعدها قال العمدة :
ـ اتفضلوا ندخل نتكلم جوه .
وقادهم إلى نفس الحجرة التى كان يأكل فيها الضيف. وكانت الصينية قد رفعت بما عـليها من بقايا الطعام . ونادى العمدة عـلى إحدى البنات التى تعمل فى السراية طالبا الشاى .. وأغـلق عـليهم الباب. وأخذوا يتدارسون الأمر مع مندوب الأوقاف الذى فعل معه الإفطارالشهى ..الذى لم يتناول مثله من قبل..فعل السحر. فتجاوب معهم إلى أقصى حد .. وأبدى استعداده التام .. لتسهيل ما يتعـسرمن الأمر لإرضاء العمدة ورجاله .. ملمحا إلى كرم العمدة الزائد .. الذى غـمره منذ وصوله..فقال له العمدة :
ـ وحقك ياسيدى كمان هاتخده .. عـن داير مليم .. بعـد أن يتم كل شىء .
وعـلى ذلك تم الإتفاق بين المجتمعين . وعـلى أن يتم تضخيم الديون المستحقة .. عـلى المستأجرين غـير المسددين .. بحجة الفـوائد والضرائب وخلافه .. حتى يعجزون عـن السداد .. وتنزع منهم الأرض . ويتم تحريرعـقود ايجار جديدة بالأسماء التى سيحددها له العمدة. أما الأراضى التى لم يسبق تأجيرها .. فيتم تحرير عـقود إيجار لها بأسماء يحددها العمدة .. أيضا . وبخصوص الأراضى الخلاء .. فكان أمرها هينا .. حيث انها كلها تقريبا غـير مؤجرة لأحد .. فمن سيستأجر أرض ويدفع عـنها إيجار وهى لا تزرع ؟!
وعـلى ذلك سوف يتم تحرير عـقود لها بنظام حق الحكر ..لمن يراه العمدة . حتى اذا تم الاحتياج اليها يوما ما فى المستقبل كأرض مبأن .. فيمكن بيعها أو التنازل عـن حق الحكر بمقابل . . مناسب لسعر يومها . وحيث إن عـملية التوزيع عـلى رجال العمدة .. سوف تحتاج وقت منه .. اقترح عـلى الرجل أن يستضيفه فى حجرة المضيفة.. يوم أو أتنين .حتى يتم تحديد حصة لكل من رجاله وتحرير العقود اللازمة . وللتغـطية عـلى الموضوع ..سيقولون لمن يسأل عـن الضيف أنه مندوب السجل المدنى .. حضر للإطمئنان عـلى تسجيل المواليد من الأطفال فى القرية .. حتى لايحدث تهرب من التجنيد بعد أن يكبروا . ثم بعد أن يتم كل شىء.. يسافر المندوب .. وبعد أسبوع أو أسبوعين . يعـود من جديد . وساعتها يكون الناس قـد نسوه . لطلب الإيجارات المتأخره .. وطرد المتأخرين .. وتنفيذ ما تم الاتفاق عـليه .
ــ 14 ــ
بعـدما انتهى العمدة .. من موضوع الأراضى .. وكما أراد . ساد القرية جو من التوتر.. والقلق . ولم يخل الأمر من بعـض المناوشات .. والمقاومة .. وخاصة أثناء نزع اليد من الأراضى الزراعية .. والتى كانت بها زراعة لم تكتمل .. والتى أصر المندوب .. بإيحاء من العـمدة . عـلى نزع ملكيتها .. بحجة انه لا يريد الحضور مرة اخرى .. والعمليه تطول . وكل مرة يتلم الناس ويحصل قلق . وسبب للمشاكل .. هو .. كيف سيتم تسليم هذه الأراضى للمستأجر الجديد ؟ . وهنا اقـترح العمدة .. عـلى المستأجر الجديد أن يعـوض القـديم عـن تكاليف الزراعة . وحدثت خلافات ومشاجرات فى تقدير قيمة المزروعات .. إلا أن الأمر فى النهاية تم كما أراد العمدة ورجاله . وخاصة أنه لم ينس أى من خلصائه ..وحاول بقدر الإمكان إرضاء كل العائلات التى تناصره.. لذا وقـف جميعهم معه لإنهاء الأمرعـلى ما أنتهى إليه . إلا أنه ترك أناساً يشعرون بالظلم . وآخرين ثارت ثائرتهم لأخذ الأرض منهم وإعـطائها لآخرين . فهددوا وتوعـدوا . وأظهر أقرباء العمدة السابق استياءً شديدا .. وتزعـمهم أخوه الذى كان مرشحا للعمودية منافسا لعبد الجبار. وقاموا بإرسال بعض الشكاوى إلى الأوقاف . إلا أن المندوب كان قد أعـد عـدته لهذا الموقف جيدا .. ورتب أوراقه جيدا .. بحيث بدا أنه حرص عـلى جباية الإيجارات المتأخرة .. وتنفيذ التعليمات ..وخاصة أن العمدة وأنصاره وقفوا جميعا معه وذهبوا للمسؤولين شارحين وموضحين سلامة موقفهم . مما أدى إلى أن مديرهيئة الأوقاف ..قدم الشكر الجزيل للعمدة ورجال الإدارة عـلى ما بذلوه من جهد لإحقاق الحق..وحرصهم عـلى أموال الأوقاف .
إلا أن عـبد الجبار.. بينه وبين نفسه لم يكن مطمئنا كل الاطمئنان .. إلى ما إنتهت اليه الأمور. حقا انها انتهت لصالحه ..وكما أراد لها أن تنتهى .. وأن الأمر بيده .. وكبار العائلات أنصاره .لكن ماجعل الفأر يلعب فى عـبه . ويقلقه بعـض الشىء .. إدراكه .. وفهمه لطبيعة ابن بلده . فـليس سهلا عـلى أى منهم أن تنزع منه أرضه .. بل الأسهل عـليه أن تنزع منه ابنه أو ابنته ..أو تنزع روحه .. ولا تنزع منه أرضه . وخاصة بعد أن حرثها وبذرها بالتقاوى .. وبدأت تنبت .. ثم تأتى وتنزعها منه. وعـلى ذلك طلب من شيخ الخفر .. التنبيه عـلى رجاله بفتح أعـينهم جيدا خلال الأيام القادمة . ومن جانبه .. نبه عـلى رجاله وعـيونه الخاصة .. بموافاته أولاً بأول بما يدوربين خصومه الجدد . ومحاولة معرفة نواياهم .. وحاول من جانبه التودد اليهم .. ومحاولة التقرب منهم وكسب ودهم . وما كان يدهشه ويزيد من شكه .. أن الأخبار التى تصله عنهم تؤكد عـلى استسلامهم للأمر الواقع واستكانتهم . فـزاد من ترقـبه لردة فعلهم . أما أهل العمدة السابق .. فـلم يكن يحمل لهم هما .. فبعد إرسالهم للشكاوى .. لم يكن أمامهم سوى القبول بالأمر الواقع . وخاصة أنه وأنصاره أشاعـوا فى البلدة .. أن العمدة السابق كان موزع الأرض عـلى أهله . ودون أن يدرى أحد بما فعل .. وأن العمدة الحالى لم يرد إلا إحقاق الحق . وقام بتوزيعها عـلى معظم عائلات البلد .
ــ 15 ــ
بالرغـم من حالة القلق والترقب التى كان عـليها عـبد الجبار .. إلا أنه كان قرير العين بما أصبح تحت يده من ثروة .. أتته بدون أى مجهود . وفى ليلة كانت عـنده .. أخته شهيرة وزوجها . وبعد أن تناولوا العـشاء .. وجلسوا يشربون الشاى . مال عـلى أخته وكانت تجلس بجواره .. وهمس لها :
ـ ايه رأيك يا أختى ..أنا عـايز أرد لكم ميراثكم من الأرض . وكتر خيركم عـلى كده . بس عـايزك تسألى أخواتك .. أكتبها باسم مين؟باسمكم ولا باسم رجالتكم ؟ . قال ذلك وهو يبتسم .
ـ لأ يا خويا .. كل واحدة أولى بحقها .. أكتبها بأسامينا . والله ياخويا أنت عـمرك أطول من عـمرى .. أنا كنت جايه الليلة وناوية أكلمك فى كده . أصل جوزى من كام يوم كده يعـنى لمح لى .. يعنى كده بالمتغطى .
ـ لأ يا أختى . من صباحية ربنا ها آخدكم بربطة المعـلم عـلى الشهر العقارى . وربنا يبارك لكم فيها . ثم إلتفت إلى زوجها قائلا وهو يضحك .
ـ عـن إذنك ..هاخد مراتك منك بكره ..أفسحها لك شويه فى البندر وأرجعها . وإلا أن كنت مش عـايزنى أرجعها لك تانى .. أسيبها هناك وآجى . فضحكوا جميعا.. ورد .
ـ لا ياعـم أنا مقدرشى أستغنى عـن ضوفر من صباع رجلها .
فعلا ضحكهم من جديد .
وبعد انصرافهم .. بقى هو ووفيق ورقية . وبعد قليل من اللحظات التى سادها الصمت . قال:
ـ أنا مش عـارف نعمل إيه فى الأرض .. نطلعها بالزرعة .. ولا نزرعـها ولا تباشرها ياوفيق .. ولا نكرى لها خولى ؟. أيه رأيكم ؟
ـ لاخولى ولا حاجه .. ماتشغلش بالك يابا . إن شاء الله أنا قدها وقدود . وآهو نفسك معانا برضه .
ـ لأ يابنى .. الأرض مسئوليتها مش سهله وكبرت عليك .
ـ هو أنا يعـنى ها أعمل ؟.لاهاأزرع ولا ها أقلع .. أنا ها أشرف عـلى الرجالة .. والحمد لله الرجالة كتيره فى البلد .
ـ طيب خلى لك رجالة .. يعنى أنفار تكون دايما من رجالتنا وبتوعـنا .. عـلشان يكونوا معانا دايما .. وابقى راعـيهم شويه .
ـ ماشى يابا .
ـ وخلى بالك من عـيلة الباز .. كلهم رجاله وخاليين شغل .. وأرضهم عـلى قـدهم . وطول السنه هاتلاقيهم فاضيين .
كل ما كان يشغل بال عـبد الجبار أنه كان يريد أن يجعـل من العمل معه فى الأرض .. مصدر رزق للرجالة التى يضمن ولائها له ..بدلا من أن يذهبوا مع الترحيلة..فى بلاد الله خلق الله .
ــ 16 ــ
لم يطل انتظار العمدة وترقـبه .. فـفى ليلة ربيعية .. وبعد أوقات ممتعة قضاها مع زوجته رقـيه .. وخلدا للنوم. هب من رقاده عـلى صياح .. ودوى طلق نارى . . شق عـنان السماء وخرق الصمت المخيم عـلى القرية . وأصوات الحيوانات فى حظيرته يكاد أن يخرق أذنيه . فهرول خارجا بملابسه الداخلية . وتوافـد خلـفه أفـراد عائـلته .
ـ أقـف مكانك.. ها أضرب فى المليان . هكذا كان يصيح خفيره الخصوصى .
وأصوات أقدام تعدوا تصل إلى أذنيه.. لكنه لايكاد يرى من شدة الظلام حوله.
صرخ العمدة :
ـ فيه أيه ياخفير ؟ .
بعد ما تعـرف الخفير عـلى صوت العمدة .. هرول إليه .. وقد تجمع عـنده .. أفراد عائلته .. وبعضهم كان يحمل لمبات الجاز .. وفوانيس تساعـدهم عـلى تبديد جزء يسير من ظلام الليل .
ـ شوية حراميه .. طلعوا فوق الزريبة .. لما حسيت بيهم زعـقت عـليهم .. وضربت عـليهم طلقة .. جروا كلهم فى الضلمة .
عـند ذلك كان قـد وصل إلى المكان .. بعـض الخفر.. ثم شيخ الخفر.. وبعـض أبناء عـمومته .. كل حسب قرب داره . ثم شيخ البلد وعـمه إبراهيم .
وبمرور الوقت .. تجمع حشد كبير من أقاربه وأنصاره .. والتفـوا حوله .. معبرين عـن دهشتهم وانزعاجهم .. مستفسرين عـما حدث ، وعـندما تبين لهم حقـيقة ما حدث . سرت بينهم موجة من الغـضب .. وطالبوا بضرورة الثأرمن الفاعـل .. أيّاً كان . ومنهم من طالب بضرورة التعرف عـلى الفاعـل أولاً .. وكان هناك استنكار تام لما حدث .. فكيف يصل الأمر إلى محاولة سرقة دوار العمدة ؟!. وسرت بينهم أقاويل .. تتهم أشخاصا بعينهم .. وأخرى تتهم عائلة معينة . عـند ذلك .. انسحب العمدة .. الذى ظل صامتاً .. صاعـداً إلى البلكونة . فتبعه عـمه إبراهيم وشيخ الخفر وشيخ البلد وكبار الرجال الموجودين من أنصاره . وظل مكانهم باقى الموجودين .
جلس العمدة بينهم صامتا.. بعض الوقـت . أدرك بعدها أنه بملابسه الداخلية . فـدخل وارتدى جلبابه وعاد اليهم .. ليخيم صمت الذهول عـليهم من جديد .
بعد لحظات وجه كلامه لشيخ الخفر :
ـ الصبح .. مع طلعة الشمس . عايز أعـرف مين دول اللى جاتلهم الجرأه عـلى كده ؟ ومين اللى وراهم إن كان حد وراهم ؟ .
قال ذلك فى لهجة قاطعة .
ـ أوامرك يا حضرة العمدة. وقام منصرفا. وتبعه من كان موجودا من خفـره .
فوجدها عـبده أبو سليمان فرصة :
ـ اللى حصل ده .. أول مرة يحصل فى البلد .
رفع العمدة يده مطالبا الكل بالصمت . ففهم الحضور أن الرجل يريد أن يختلى بنفسه . بدأوا فى الإستئذان منصرفين واحدا بعد الآخر. بعـضهم إنضم للواقفين بالشارع .. والبعض إنصرف إلى بيته .
عـندما انتبه العمدة .. لوجوده وحده . نظر حوله .. فوجد ابنه وفيق يجلس بالطرف الآخر من البلكونة .. وحده أيضا . ناداه .
ـ أيه .. قاعـد لوحدك ليه يا ابنى ؟.
ـ بفكر فى اللى حصل .
ـ ووصلت لإيه .
ـ أكيد طبعا .. اللى عـملها .. من اللى كانوا مأجرين أراضى الأوقاف واتخدت منهم .. ولازم أعـرفهم واحد واحد .. وكمأن لازم يتربوا ..ويعرفـوا أن عـمدة البلد وسيدها ما يتعملش فيه كـده أبـدا .
ـ إيه ده .. إيه ده .
ـ أنا ماعـدتش صغير يابا .. واللى حصل ده إهانة لنا كلنا .
هز عـبد الجبار رأسه .. ولاذ بالصمت . فانصرف وفيق خارجا .. وأنضم للوقوف جوار السراية .. وسرعأن ما أحاط به أفـراد شلته من الشباب .
رجع عـبد الجبار برأسه إلى الخلف .. مسندا إياها إلى الحائط .
" أيه ده يا عـبد الجبار .. يا عـمدة البلد وكبيرها ، وصل الأمر إن فـيه حد فى البلد بيفكر .. لأ مش بيفكر ، ده فكر وخلاص . وبيحاول يسرقـك ؟ !. ولا ياترى كان عايز حاجه غـير السرقه ؟ طب كان عايز إيه ؟ . ياترى كانوا عايزين إيه ؟ يسرقوا البهايم ؟ ولا الحصان ؟ ولا كانوا عايزين يدخلوا السراية ويموتونى وأنا نايم ؟ كانوا عايزين إيه بالظبط ياعـبد الجبار ؟ عايز أعـرف ضرورى ..كانوا عايزين إيه ؟ ووصل تفكيرهم لأيه ؟ بصرف النظر عـن الفعـل والفاعـل . عـلشان أعـرف أقدر رد فعـلى يكون شكله أيه ؟ إذا كانت النيه سرقـة ؟ يبقـوا لازم يتعلموا الأدب كويس عـلى قـول وفيق أبنى . وإن كانت النية قتـلى؟ أو أي حد من العـيلة؟ يبقى الموضوع فيه كلام تانى خالص".
عـند ذلك نهض العمدة من مجلسه .. أقترب من سور البلكونة .. أسرع إليه بعـض من رجاله . أشار إليهم .. فصعدوا إليه .
ـ هيه .. كل ده يحصل ومافـيش عـندكم خبر..إزاى؟. أنا عايزأعـرف مين اللى عـمل كده واحد واحد ؟ وكان عايز إيه بالظبط ؟ قبل ماشيخ الخفـر يبلغنى تكونوا أنتم اللى مبلغينى . وبعدها هايكون لى كلام تانى معاكم . ونظرإليهم متوعدا.. وأشار بيده للانصراف . فأسرعـوا من أمامه وعاد إلى مجلسه .
" أيه ياعـبد الجبار .. يا ترى الأيام الجايه مخبيه لك أيه ؟. أنا ماكنتش ميال لأى شر.. لكن باين أنهم هما اللى هايجرونى له . راودته نفـسه أن يلتمس لهم العذر.. ما هو أنت برضه اللى خليتهم يعملوا كده . يعنى لو كنت سبت لهم الأرض لبعـد جنى المحصول كان حصل أيه يعنى ؟ . يعنى لو كنت أنت مكان أى واحد منهم مش كنت عـملت كده وأكتر من كده كمان؟!.عـند ذلك وجد نفسه يميل إلى الهدوء . تصاعـد من داخله صوت عال يصرخ به :
ـ لأ .. أنت العمدة .. ولازم يكون لك هيبتك مهما كان ومهما عـملت . النهارده بيسرقوا دارك .. وبكرة هايعملوا إيه ؟!. مال إلى ذلك وأمن عـليه .. حتى أنه وجد نفـسه يقـول بصوت عال :
ـ أيـــوه .. أنا العمدة .. ولازم تكون هـيبة العمدة فـوق كل اعـتبار.
وصرخ من داخله صوت :
ـ الهيبه بتيجى من العـدل ياعـمده .. مش من القـوة .
ـ لأ .. لأ .. القوة هى اللى بتولـد الهيبة .. سواء فيه عـدل ولا مافيش عـدل ."
سخنت رأسه .. هزها لعله يزيح عنها مابها من أفكار . قام من مجلسه .. تحرك .. لعل الحركة توقف مايدور فى رأسه . وصل إلى نهاية السور من ناحية الحظيرة .. إنصرف من كانوا مجتمعين ما عـدا الخفر. نظر إلى السماء .. بشائر ميلاد نهار يوم جديد .. تولد فى الأفق . ترى ماذا يحمل معه ذلك الصباح الجديد ؟!.
ــ 17 ــ
وقف وفيق مع أفراد شلته بعـض الوقت بجانب السراية .. ثم اتجهوا إلى دار أحدهم حيث اعـتادوا كل ليلة السهر فيها . واكتمل عـقدهم بالرغـم من أنهم فى وقـت غـير المعتاد . ساد الصمت بينهم لحظات .. تكلم بعدها وفيق قائلا:
ـ العمليه دى مش سهله عـلى العمدة ياجماعه .. ولا عـلىّ أنا كمان . .. واللى أنا باطلبه منكم الوقت ده .. معرفة اللى عـملوا العمليه المنيله دى .. وبأسرع من رجالة العمدة .. إيه قولكم ؟! .
كان بينه وبين نفسه يريد أن يثبت لأبيه أنه إبن عـبد الجبار بحق وحقيق .. وانه امتداد له وأهلا للعمودية من بعده . بعـد العـمر الطويل له . فهو لم ينس أن له زوجة أب وتحلم بأن يكون أحد أبنائها هو الوريث فى العمودية لأبيه . كما أنه فى نفسه .. وجدها فرصة لأن يجعـل أبيه يغـير فكرته عـنه . وأنه لم يعد ذلك اللاهى الباحث عـن المتعة والملذات .. وبعيد كل البعد عـن أن يكون رجلا يعـتمد عـليه فى الملمات والشدائد . وعـلى ذلك كان كله رغـبة أن يثبت لنفسه أولا ولوالده ثانيا ولكل رجال البلد ثالثا .. أنه قـوة لايستهان بها .. ويجب أن يعـمل لها ألف حساب وحساب .. فى تسيير أمور القرية .. وانه ابن عـمده بحق .. وليس منظره أو ولد خيخه .
كل ذلك كان يدور فى رأسه .. بعد أن أنهى الجلسة مع رجاله . فخرج يطوف القرية فى الظلام هو ومن معه قائلا بالفم المليان لكل الناس :
ـ أنا هــنــا .
ثم اتجه إلى السراية منفردا .. منتظرا من أنصاره ما أتفق عـليه .
ــ 18 ــ
ما أن أشرقت شمس اليوم التإلى .. واضعة نهاية لتلك الليلة .. حتى كان ماحدث فيها حديث أهل القـرية .. فى الشوارع وهم جالسون عـلى المصاطب .. فى الحقول أثناء العمل .. فى المنازل والمقاهى .
فالذى حدث أمر لم يسبق أن سمع به أحد .. وكان محور الحديث فى كل مكان ..يدور حول تكهنات لشخصيات الفعـله .
من هم ياترى الذين وصلت بهم الجرأة إلى هذا الحد؟ بغـض النظر عـن الأسباب والدوافـع . فالدوافـع موجودة لـدى كل فـرد ضد كل فـرد قد يحدث بينه وبينه مشكلة ما . أما أن يتجاسر فـرد.. أو مجموعة أفراد ..من القرية ويقـدمون عـلى محاولة سرقة .. أو اعـتداء عـلى بيت عـمدة القرية .. فـهذا أمر خارج عـن المعقول .. وفوق كل احتمال .. وأبعـد مايكون عـن التصور.وكان الشيخ إبراهيم أكثر أهل القرية ذهولا وغـضبا فى الوقت نفسه . ولولا أنه معروف بقدرته الفائقة عـلى ضبط النفس وحسن التدبر .. لصدر منه من الأقوال والأفعال ما يتجاوز كل حد للعقل والمنطق . فلم يتصور فى يوم من الأيام ..أن يصل الأمرفى القرية إلى ماوصل إليه .. ويقع فيها ما وقع . وعـلى ذلك كان بداخله إصرار شديد.. عـلى أن يكون هناك عـقاب عـنيف لمن فعلوا هذه الفعلة .. ليكون بمثابة رادعا لمن تسول له نفسه فـعل ذلك مرة أخرى . وإلا ستكون العـمليه سيبه.. وكل واحد من كبار رجال البلدة عـرضة لأن يحدث له مثل ماحـدث وأكثر . حقا كان لديه اليقين بأن موضوع توزيع أرض الأوقاف وراء هذه الواقعة .. إلا أنه كان يقول فى نفسه أيضا .. وأيه يعنى . ده عـمدة البلد .. وكبيرها ياناس . ومهما عـمل لازم يكون فيه إحترام .. وهيبة له كعمدة . وإلا ضاع فى البلد الكبير أمام الصغير وبقت هيصه . عـلى حد قوله لأولاده الذين زرع لديهم الحماس والرغـبة فى الأخد بالثأر لما حدث .. وأن يكونوا وإبن عـمهم يدا واحدة عـلى من فعلها . أما شيخ الخفراء فكان يرى من جانبه.. أن ماحدث ماهو إلا تحد واضح وصريح لشخصه ولرجاله . وأنه قـد لحـقت به إهانة شخصية لا تغتفـر.. وسيظل ما حدث قـلما عـلى قـفاه يحس به ساخنا حتى يموت . حسب تعبيره لخفره وهويؤنبهم ويوبخهم .. لعجزهم عـن منع وقـوع الحادث من البداية . وأن عـليه أن يثبت لنفـسه أولا وللعمدة ثانيا.. أنه كمسؤل عـن الأمن فى البلد ..مازال قادراعـلى ردع من تسول له نفسه ..الخروج عـليه . ولابد وبأسرع ما يمكن .. الوصول إلى الجناة والقـبض عـليهم .
وأما عـبده أبو سليمان .. فـقد إعـتبر أن ماحدث ماهو إلا نتيجة طبيعـيه لعجز شيخ الخفرورجاله ..عـن حفـظ الأمن . وعجزه عـن الإلمام بكل مايدور ويحدث فى البلد . فكيف يتم التدبير والتجمع للتنفـيذ بعيدا عـن عـيون المسؤولين عـن الأمن ؟ وخاصة وهو دائم الإدعاء أنه يعرف دبة النملة . وبعدين يطلع لاعارف دبة النملة ولا حتى دبة الفيل . مما جعل شيخ الخفـر يعتب عـليه ويشكوه للشيخ إبراهيم الذى نهرهما معا قائلا:
ـ ليس هذا الوقـت ..وقـت مثل هذه التصرفات . انما الوقـت ده وقـت أن نكون كلنا رجل واحد ويد واحده .. والا اللى عـملوا كده يضحكوا عـلينا .. ويضحكوا البلد عـلينا . ويقـولو لهم شوفـوا الرجاله اللى بتحكم البلد.. وهمابيتخانقو مع بعـض . فـوافـقه الإ ثنأن عـلى قوله.. وإنصرفا كلا فى اتجاه . إلا أن شيخ الخفـر أسرها فى نفسه له .
شيخ الجامع رأى فى الأمر شيئا مختلفا عـن الآخرين.. فبعـد صلاة الفجر .. صباح الحادث .. طلب من المصلين البقاء قليلا .. وخطب فيهم قائلا :
ـ إن ماحدث يدل عـلى أن الساعة اقتربت وأن ذلك من علاماتها .. وأنه خروج عـلى أولى الأمر. وأن من فعلوا ذلك إنما يعيثون فى الأرض فـساداً.. وعـلى ذلك يجب نفيهم من البلد.. ليعود الأمن والأمأن إلى ربوعـها . وانهم فـئة مارقة. ولابد من أن تقـف القرية كلها مع عـمدتها.. للتعبيرعـن استنكارها لما حدث . وخـتم قـوله الآية :
(وأطيعـوا الله وأطيعـوا الرسول وأولى الأمر منكم)
وانصرف المصلون .. منهم من دخل دماغه كلام الشيخ.. ومنهم من سخر منه فى نفسه..متهما إياه بأنه ديل العمدة . وفقيهه الخصوصى .. ومنهم من لاذ بالصمت .
أما من كان يضمر العـداء للعمدة..فـقد أخفى فـرحه.. بما حدث فى نفسه . وأغـلق عـليه داره . ومعارضوه رأوا الوقوف عـلى الحياد .. فلا يبدون فرحا.. لأن ماحدث أمر غـير مقبول . وأن كانوا يرونه رسالة واضحة للعمدة ليراجع نفـسه ويصحح أخطائه التى أوصلت الأمور إلى هذا الحد .
وهكذا جرت الأمور فى القرية .. حتى إذا اعـتلت الشمس كبد السماء .. وإقترب وقت الظهيرة . شهدت المنطقة القريبة من السراية .. مشهداً فريدا . إذ اقترب شيخ الخفـر فى عـدته الكاملة ..وجميع خفره . يقـودون خمسة من الشبان مكتوفى الأيـدى من خـلف أظهرهم .. ومربوطين بحبل واحـد .. طويل . يمسك آخره أحدالخفر.. وأوله شيخ الخفراء بنفـسه . وهو يقود الركب .. شامخا برأسه متهلل الأسارير. وقد إلتف حولهم الناس فى جمع حاشد .
ــ 19 ــ
عـندما إقتحم شيخ الخفر عـلى العمدة مجلسه فى البلكونة .. معلنا أنه تم القبض عـلى الجناة . مستأذنا فى إحضارهم إليه . انتابته مشاعـر متناقضة . إلا أنه أبعدها عـن رأسه مؤقتا .. حتى يعـرف من هم الجناة فعلا . وعـندما حضروا أمامه .. وكان معه عـمه وعـبده أبو سليمان وبعض الرجال وإمام المسجد . تطلع العمدة إليهم يتأملهم واحدا واحدا. دهش لما يراه . فالمقبوض عـليهم عـمال يومية .. أجراء .. يعملون ليطعموا أنفسهم . حقا يبدوا عـليهم الفقـر والحاجة .. لكن ليس إلى درجة محاولة سرقة دوار العمدة .
" دية الواحد منهم كده يسرق له شوال أرز أو شوية دقيق .. ده أن سرق . ويتدارى عـن العين .. أما أن يفكر ويتبجح ويحاول يسرق دوار العمدة .. فـدى كبيره قوى . أيه التمثيليه اللى أنت عاملها دى ياشيخ الخفـر. عايز تبين لى إنك صاحى وبسرعـه قبضت عـلى الجناة .. ولا أنت عـايز تضرب المربوط عـلشان يخاف السايب ؟. ولا إنت عـملت كده لتعـطى الجناة الأمان.. حتى تقبض عـليهم ؟. "
رنا العمدة اليه .. محاولا إستجلاء ما يضمره . لكن الرجل كان يقـف متباهيا .. منفوخا .. كما لو كان قد قبض عـلى الجناة فعلا. فحنق عـليه جدا. ولاذ بالصمت . نظر إلى عـمه إبراهيم .. ثم إلى عـبده أبو سليمان . فـلم يجد ما يدل عـلى اقـتناع أى منهما بما يجرى أمامهم . إلا أن إمام المسجد..هب واقفا كأنما يريد أن يلقى خطبة عـصماء .
ـ أن الله ينصر من ينصره .. وها هو شيخ الخفـر يعـلنها أمامكم ياعـمدة البلد وكبيرها .. وهاهم اللصوص أمامكم مكبلون فى الأغلال .. ولابد أن يوقع عـليهم الجزاء الرادع لأمثالهم . نظر اليه العمدة نظرة ناريه .. فخـف حماسه بعض الشىء .. وارتبك .. ولم يعرف كيف يكمل خطبته .. فغـمغم ببعض الكلمات وجلس .
نظر شيخ البلد إلى شيخ الخفـر وابتسم ساخرا .
ـ آهو ده الشغل اللى بصحيح .
ثم نظرإلى العمدة يستحثه عـلى إنهاء هذه المهزلة . فكر عـبد الجبار قـليلا .. ثم نظر إلى عـمه إبراهيم ..الذى إرتسمت عـلى وجهه إبتسامة ساخرة ..لم يعـرف كيف يداريها .. رغـم حرصه عـلى ذلك .
ـ طيب ياشيخ الخفـر .. دخلهم الحجز دى الوقت .. عـلى ما نشوف هانعمل معاهم ايه . وغـمز له بعينه .. بما يعنى انهى الموقف . فانسحب من أمامه..وكأنما ألقى عـليه سطل من الماء البارد.ومحاولاً الإبقاء عـلى بقايا كبريائه .. صرخ فى الخفـر .
ـ يا الله .. ياواد أنت وهـو.. دخـلوهـم الحجـز.
ثم ألتفت إلى الجمع الحاشد حول البلكونة وزعـق فيهم .
ـ يالله ياخويا أنت وهو .. كل واحد يروح لحاله .
فانصرف كل منهم إلى حاله .. وأن بدى عـلى أغـلبهم .. عـدم تصديق ماهو ماثل أمامهم .
أما وفيق فقد كان يجلس فى الطرف الآخر من البلكونة .. وكان الأمر لا يعنيه . وبعد أن دخل الرجال الحجز..وإنصرف الحشد من حول السراية .. جاء واحد من رفاقه .. وجلس بجانبه .. وتحدثا معا بعض الوقت .. ثم انصرف .. وترك وفيق وقد أعـترته الدهشة . وأن ظل جالسا . ورنا بناظريه إلى والده .. وعـندما وجد الجمع اقتصرعـليه وعـمه وشيخ البلد .. ذهب اليهم .. حيث بادره أبوه :
ـ هيه يا وفيق .. أخبارك ايه ؟ .
ـ اللى عـمل العمليه دى .. خمسة رجاله .. إتنين من عـيلة ابو العز.. وتلاته من عـيلة الشوربجى .. وكان الغرض سرقة الحصان . بادر شيخ البلد .. معـلقا .
ـ آهو ده الكلام اللى يدخل الدماغ بصحيح .مش تمثيلية شيخ الخفـر.
ـ متأكد من كلامك ياوفيق يابنى . هـذا ما قاله الشيخ إبراهيم .
ـ ده اللى عـندى .. وكل واحد منكم هايعـرف بطريقته .. وأن شاء الله كلامى هو اللى هايطلع صح .
ـ وعـرفتهم بالإسم ؟
ـ أيوه يابا .. ومنتـظرمنك الإذن .
ـ إذا كان الموضوع كـده يبقى كفايه عـليهم إنهم يتعلمو الأدب .
ـ نوديهم المركز يتبهدلو لهم يومين هناك .
ـ مركز أيه ياشيخ البلد .. وهانقول أيه لظابط المباحث .. وهو فاهم عـنى من أيام ماكنت شيخ بلد .. إنى مالى هدومى .
ـ سيبلى العمليه دى يا با .
نظر إلى إبنه .. وقد كبر فى عـينيه .. تصور لحظتها إنه لم يعد ذلك الشاب اللاه .. وبدا له رجلا يملأ هدومه بصحيح .. وقـد برم شاربه .. اللى يقف عـليه الصقر.
ـ هـاتعـمل أيـه ؟.
ـ سيب لى الموضوع ده .. وهايتم بعـيد عـننا كمان . عـلشان مايتقالش أن العـمده له علاقـة به . وأن شاء الله تسمع كل اللى يرضيك .
ـ يابنى مش عايز العملية تتجاوز حدود أنا راسمها فى دماغى. يعـنى ماتزيدش عـن قرصة ودن.. بس جامده شويه .
ـ أنـا فـاهم إنت عـايز أيه بالظبط .
ـ طب إستنى كام يوم لما نتأكد إنهم فعلا اللى عاملينها .
ـ ماشى .. قدامك يومين .. كفايه ؟.
قال ذلك وتركهم منصرفا .
ــ 20 ــ
بعـد موكب شيخ الخفـر بيومين ..استيقـظ أهل البلدة..عـلى صراخ النساء فى دارين.. واحدة منهما فى عائلة أبو العـز ..والأخرى من ديار عائله الشوربجى .. فهرع إليهم أهالى البلدة . وكم كانت المصيبة واضحة للعيان . فقد كان الصراخ من داخل حظائر الماشية فى كل دار.. وقـد تمدد عـلى أرضية كل منهما .. إثنان من قطع الماشية فى كل حظيرة .. وتبقى واحدة واقـفة . وقـد أخـذ الرجال من أهل الدارين جانبا .. وقد إنهمرت الدموع من أعـينهم ساخنة .. كأن ولدا من أولاد كل منهما قد مات . وتجمع حول كل من الدارين.. حشد من الأقرباء والأصدقاء والجيران . وهرع عـلى إثر ذلك كل من شيخ البلد والخفـر .. وزاروا معا فى البداية.. دار ابن أبو العـز.. الذى كان واقفا عـلى مدخل الحظيرة.. يسند ظهره إلى الحائط .. وزوجته جالسة عـلى أرض الحظيرة.. تبكى وتولول وتضرب رأسها بيديها قائلة :
ـ ياخراب بيتك يا فاطمه .
وتارة أخرى تصرخ .. وتدعـوبقـلب مكلوم عـلى من فـعلها بهم :
ـ ربنا يحرق كبدك ياللى عـملتها .. ذى ما أتحرق كبدى .
وقد تجمع حولها حشد من النساء .. يحاولن التخفيف عـنها . وعـندما رأت الوافدين علا صراخها أكثر .. وأخذت تردد :
ـ منكم لله .. منكم لله .. ربنا ينتقم منكم .
فنهرها زوجها قائلا :
ـ ياوليه ياهبله .. إنت جرالك إيه .. هما مالهم دول .
ـ مراتك قصدها إيه .. تكونش بتتهمنا أن إحنا للى عـملناها ؟.
ـ ياشيخ البلد .. الولية إتهبلت .. أنت هاتاخد لها عـلى كلام برضه ؟.
ـ عـموما ربنا يصبركم عـلى مابلاكم.ودخلا الحظيرة.. وكم كان المنظر مؤثرا فيهما . وخاصة أنهما يدركان تمام الإدراك قيمة الماشية وأهميتها عـند الفلاح . فوقفا يتأملان الجاموستان ..وملامح التأثر بادية بصدق عـلى كل منهما .. وكل من احتشد حولهم .
تذكر شيخ البلد ماقاله وفيق إبن العـمدة ووعـده لأبيه بتأديب من تجرأ وحاول سرقه الحصان . فتسائل بينه وبين نفسه .
ـ ياترى ياوفيق .. إنت اللى عاملها ؟. آه من جمدية قـلبك يادى الواد . وياخوفى عـليكى يابلد .. منه ومن اللى حواليه .
فلم يكن يخفى عـليه ماكان يفعـله وأصحابه من شباب البلده . فإزداد حزن الرجل وأساه عـلى ماحدث . أما شيخ الخفر فقد وقف يتأمل البهائم الممددة أمامه .. وهو يجهل جهلا تاما الفاعـل الحقيقى . ويحدث نفسه :
ـ أيه المصايب اللى قاعـده تنزل عـلى دماغى ..هو أنا هلاقيها منين ولا منين . وبعـدين حكاية سم البهايم دى جديده عـلى البلد خالص ..هيه الناس لاقيه تاكل لما هاتسمم بهايم بعـضيها ؟.
ولم يتمالك رجل من الواقفين نفسه .. فقال فى حدة لشيخ الخفر :
ـ يرضيك اللى إنت شايفه ده .. ياشيخ الخفر ؟.
ـ لأ .. مايرضنيش .. ولا يرضى مؤمن أبدا .
ـ طيب وها تعـمل أيه إن شاء الله ؟!.
ـ لازم نعـرف طبعا مين الفاعـل ونقدمه للعـدالة .. لازم القانون ياخد مجراه .
ـ القانون ياخد مجراه ؟!.. ومجراه ده هايعـوض الراجل عـن بهايمه إزاى ؟!.
ـ الله ..ده دى ..ده دى..وأنا ياعـنى اللى هاعـوضه ؟.
ـ لأ .. لا سمح الله . أنا ماقـلتش كده .. بس إنت كنت فين إنت ورجالتك لما اللى عـملها .. دخل وحط السم فى الأكل للبهايم فى الدارين وفى ليلة واحدة ؟؟. عـلى فكره ماتحاولش تفهمنى أن ده مش حادث مقصود .
ـ قـصدك أيـه يـاواد ؟.
ـ قصدى واضح .. دى بفعل فاعـل . ياشيخ الخفـر . وبغرض الإنتقام كمان .. مش كده ولا أيه ياشيخ البلد ؟.
ـ والله إنت باين عـليك بقيت تعـرف عـن شيخ البلد وشيخ الخفر.. كمان . أنا نفسى مش عارف إنت قصدك أيه؟. وإذا كنت بتتهم حد .. ولا فى دماغـك حاجه خليك راجل وقولها عـلى المكشوف.قاعـد تلف وتدور عـلى أيه؟. هى البلد فيها حاجه بتستخبه ؟.
ـ آهو أنت جبت الخلاصة .. البلد مافيهاش حاجه بتستخبه . وبكره هانقعـد جنب الحيطه ونسمع الزيطه .
عـند ذلك رفع شيخ الخفـر عـصاه الخيرزان التى لا تفارقه .. قاصدا ضرب الرجل .. الذى تحرك من مكانه مسرعا .. وهويقول :
ـ آهو ده اللى إنت شاطر فيه .
عـند ذلك غادرا المكان إلى الدارالأخرى .. وحدث هناك شىء من اللغـط .. والهمز واللمز .. الذى أدرك شيخ البلد مقصده تماما . فى الوقت الذى جهل شيخ الخفر كل شىء عـنه .. تمام الجهل .
ــ 21 ــ
بعـد عـصر ذلك اليوم .. اجتمع فى بلكونة العـمدة.. كل من العـمدة وشيخ الخفر.. وإمام القرية .. وكبار رجال البلد ة . يتشاورون فيما يجب عـمله إزاء تلك الحادثة التى وقعـت فى البلدة لأول مرة . فلم يصل الأمر .. مهما كانت العـداوة بين العائلات أو الأفراد .. إلى هذه الدرجة .. ولأن الحادث كان جديدا فى نوعـه..وخطيراً فى نفس الوقت . أخذ كل من الحاضرين كل يدلوا بدلوه .. دون أن يصلوا إلى شىء . ذلك لأن الفاعـل مجهول .. ثم إن دوافع الفعـل أيضا مجهولة . من وجهه نظرالحاضرين .
فاقترح أحد الحاضرين عـلى العـمدة ..أن يرسل فى إحضار المصابين.. وخاصة أنهما لم يتقدما ببلاغات.. ولم يعـلنا اتهامهما لأحد بشكل مباشر. وأن سرت من حولهم أقاويل .. تطال العـمدة وأهله فى مجملها . فرحب العـمدة بذلك الإقتراح . وأرسل خفيرا لإحضارهما . فأتيا معه بعـد تمنع .. وصحب كل منهم..بعـضا من أقاربه وجيرانه .. فإمتلأت البلكونة . بالإضافة إلى من وقـف عـلى السلالم وأمام السراية .ووقف الرجلان وكل منهما مطأطىء الرأس محنى الهامة ..كإنما يحمل كل منهما عـلى كاهليه جبال الدنيا .. وعـلامات الأسى والحزن .. تصبغان وجهيهما.. لدرجة تثير الشفقة .
ـ هيه.. يارجاله .. مالكم ماتـقـد متوش ببلاغ ؟.
فرد ابن أبو العـز .. وهو يرفع وجهه فى وجه العـمدة عـلى إستحياء .
ـ بلاغ أيه ياحضرة العـمدة .. هو إنت مش عـرفـت خلاص ؟.
ـ إيوه عـرفت.. بس لازم تتقدموا ببلاغ.. وتقولوا فـيه إن كنتم بتتهموا حد ولا لأ..عـلشان تاخد الأمورمجراها القانونى .
ـ إحنا مش مقدمين بلاغات .. ومش هانتهم حد . ربنا هو المطلع .. وهو المنتقـم الجبار .
عـند ذلك هـب إمام القـرية وقـال:
ـ آهو ده الإيمان اللى بصحيح .
ـ ونعـم بالله .. يعـنى إنتم مابتتهموش حد .
ـ لا .. يا حضرة العـمدة . فنظر العـمدة فى وجوه الجالسين .. قائلا :
ـ إيه رأيكم ياجماعـه .. آهو الكلام قدامكم أهوه .. إنتم شايفين أيه .. الرجاله ومش مقدمه بلاغـات .. ولا حتى بيتهموا حد أعـمل أنا أيه ؟.
ـ يقول الله فى كتابه الحكيم " وتعاونوا عـلى البر والتقوى ".
ـ قـصدك أيـه يامـولانـا .
ـ نجمع لهم حـق البهايم اللى ماتت .. وآهو كل واحد عـلى حسب مقدرته .
ـ وأنا ماعـند....... قاطعه الرجلان قبل أن يكمل عـبارته .. وفى صوت واحد .
ـ إحنا مش عـايزين صدقـة من حد . فرد العمدة :
ـ دى مش صدقه.. دى زى عـملية المزاملة فى الأرض..إنت بتعاونى النهارده.. وأنا باعاونك بكره.. ولا أيه يارجاله .
عــلا صوت بعض الجالسين :
ـ إيوه ياعـمده .. كلامك مظبوط .
ـ وإحنا متشكرين ياجماعه .. كترخيركم عـلى كده . إحنا رجاله .. وقادرين بعـون الله نصلب طولنا من تانى .
أمن عـلى قولهم بعـض الجالسين .. وأبدى البعـض الآخر تعجبهم من موقفهم .. إلا أن السواد الأعـظم أبدى إعجابه بما قالوه .
ـ والله كده .. إحنا اللى عـلينا عـملناه .. وأنتم أحرار.. وكل واحد عـقله فى راسه .. يعـرف خلاصه .
ـ عايزنا فى حاجه تانيه ياعـمدة .
ـ لا .. اتـفـضلـوا .
فانصرف الرجلان وتبعهما الحشد الذى حضر معهم.
ساد الصمت لحظات.. بين الجالسين . وإن كان القـلق يهيمن عـلىالعـمدة وعـمه وشيخ البلد . فالعـمدة .. فهم من موقف الرجلين أن لديهم إصرارا عـلى الثأر لما حدث لهم . وهو متيقن بينه وبين نفسه .. أنهم يعـرفون تمام المعرفة .. أنه هو الذى يقف وراء ما حدث . لكنه قال فى نفسه " هىء .. أوسع مافى خيلهم يركبوه .. ده أن كان عـندهم خيل. والجدع فيهم يقرب ناحية أى حاجه تخصنى.. وبينى وبينهم الأيام ."
أما الشيخ إبراهيم .. فقد أيقن أن الرجلين لديهم النية فى الإنتقام .. فسخر منهما فى نفسه " طيب ورونى كده هاتعملوا أيه .. جاتكم الخيبة .. كنا لمينا لكم قرشين .. أفيد لكم من العنطظه الكدابه دى ". أما شيخ البلد فـكان له رأيا مخالف تماما لما ذهب اليه العـمدة وعـمه . فإنه يتصور أن وصول الأمور إلى هذا الحد . يجعـلها غـير قابلة للسيطرة.. فمن السهل عـلى أى حد دس السم للبهايم فى غـفله من أى حد .. وليس للبهايم بس .. والبنى آدمين كمان". وكان يتمنى أن يقبلا حلا وسطا ولو حتى مال العـمدة عـلى نفسه شويه . وبعـد لحظات .. بدأ الجالسون فى الانصراف كل إلى داره .
وعـندما هم العـمدة للدخول..لمح وفيق جالسا فى الركن البعـيد كعادته..فناداه وتأبطه..داخلين معا..وهمس له:
ـ القرصه كانت شديده شويه .. ياوفيق .
ــ 22 ــ
مغرب ذلك اليوم .. أمر العـمدة بالإفراج عـن المحجوزين الخمسة .. فـلم يعـد هناك .. من وجهه نظره .. مايبرر حجزهم .
هذا من ناحية .. ومن ناحية أخرى .. طالما بدر من العائلتين ..الأقاويل التى تدل عـلى إتهامهم لدار العـمدة .. فـمعنى ذلك أنهم بينهم وبين أنفـسهم .. يقـرون ويعـترفون أنهم فعلا من قاموا بمحاولة سرقة دوار العـمدة . وحتى لايبدو فى موقف ضعـيف .. أراد أن يكون اللعب عـلى المكشوف . واستدعى شيخ الخفر .. وشيخ البلد .. وأمرهم بالتنبيه عـلى الناس فى الجوامع .. وفى كل مكان .. وإرسال منادى.. ينادى فى القرية..أنه عـلى كل بيت وضع فانوس أمامه ليلا .. حتى يمكن تتبع اللصوص والمجرمين بسهولة .. وإذا تعـذرأمام كل دار.. فلا مانع من إشتراك كل دارين فى واحد .. يعلق بين الدارين . كما نبه عـلى شيخ الخفر بضرورة اليقظة التامة من رجاله .. وشدد عـلى ضرورة تشديد الحراسة عـلى السراية .. وبيوت أقربائه وممتلكاتهم . خشية الأنتقام من العائلتين .. أو غـيرهم ممن قد يفكر فى التحالف معـهم . ونبه كذلك عـلى أبنه .. بضرورة الحذر وألا يسير ليلا أو نهارا.. إلا بصحبة رجاله وأحد الخفـر . أما هو نفـسه فـقليل الحركة .. وإن تحرك فسيحرص عـلى أن يحيط به جمع من أهله ورجاله وأنصاره .
وعـلى ذلك بدت القرية.. فى حالة توتر وقـلق واستنفار تام . بل أن بعـض البيوت.. كان أهلها يتناوبون فيما بينهم السهر .. مترقبين متحفزين لأى عدوان . وبدأت تحدث لقاءات بين العائلات المناوئة للعمدة فى سرية تامه.. ولا تتجاوز الفردين أو الثلاثة .. حتى لا تثير انتباه رجاله . وإن حرصوا جميعا عـلى تهدئه الأمور .. حتى يطمئن العـمدة ورجاله.. إنهم قـد سلموا جميعا أمرهم إلى الله .. وبعـدها تكون لهم ضربتهم الإنتقامية. أما العـمدة من ناحيته.. فـقد حرص عـلى ألا يصعد الأمور فى الوقت الحالى .. ونبه عـلى أبنه وكل أهله.. بعـدم المبادرة بأى شىء .. فى إنتظار ما سيفعـلونه . حتى يكون ردهم عـلى مستوى الفعـل .. مع الحرص فى الوقت نفسه ..عـلى عـدم إتاحة الفرصة لهم للفعـل.. ومنعـه أن يبدأ إن أمكن ذلك . وعـلى ذلك كثرت عـيون كل طرف عـلى الأخر . وأصبح الجميع يخشى من الحديث أمام أى أحد من غـير أهله .. وأخذ الناس يتجنبون الجلوس فى الأماكن العـامة .. بالكاد يذهبون للمسجد ويعـودون سراعـا كل إلى بيته .
ــ 23 ــ
بمرورالأيام .. أخذت الحياة تعـود إلى طبيعـتها شيئا فشيئا .. وإن كان طابع الحيطة والحذر.. مازال سائدا بين الناس . وحرص شيخ الخفرخلال هذه الأيام ..عـلى أن يكون ممسكا بزمام الأموروملما بكل الأحداث أولا بأول . وعـرف عـلى وجه التحديد .. من قام بحادث دوار العمدة . كما عـرف بما قام به وفيق ورفاقه .. ويقومون به كل يوم . من إستقطاب أنصار لهم .. ومحاولة كسب أهل البلدة وخاصة الشباب منهم . حقا إنه يغـمض العـين عـن بعـض ما يقومون به .. لكنه يعـرف ما يحدث .. وذلك أمر يختلف عـما كان يحدث من قبل .
وبينما الأيام تمر مرورها السريع .. خصما من عـمر الإنسان . وأحداث القرية .. واقفة عـن التطور. وبعـد صلاة عـصر .. يوم صيفى يـسوده .. نسمات لطيفة نسبيا.. وقبل أن ينصرف المصلون .. يدخل عـليهم أحد أقارب العـمدة السابق .. ليبلغهم بوفاة شقيقه . الذى وافـته المنية من دقائق . وأن الجنازة بعـد صلاة المغـرب . وعـندما بلغ العـمدة الخبر..سارع فى جمع من أفراد عـائلته .. يتصدرهم عـمه إبراهيم .. وأنصاره يتصدرهم عـبده أبو سليمان .. وكبار العائلات الموالية له .. إلى دار الفقيد معـربين عـن خالص العـزاء .. وقال العـمدة أمام إبن الفقيد وابن العـمدة السابق :
ـ أن الفقيد لم يكن شخصا قليل الشأن .. حتى يدفن بهذه الطريقة .. ولابد من إعـداد سرادق كبير..يليق بالمتوفى وأسرته.. وتأجيل الجنازة إلى مابعـد صلاة عـصر الغـد . وأعـلن أمامهم عـن إستعـداده التام لتحمل كافة النفقات .
فلم يكن أمام أهل الفقيد بد من الموافقة .. وإن أصروا عـلى أن يقوموا هم بكل التكاليف المطلوبة .. عـن داير مليم عـلى حد قـول بن المرحوم..فهم والحمد لله مستورون.. ثم أن ما تركه ليس بالقليل .
وتصدر عـبد الجبار .. متقبلى العـزاء .. كما تقـدم المشيعـين مع كبار رجال القرية .. والقرى المجاورة . وأمر بإعـداد الطعـام فى منزله حتى يستضيف عـنده عـلى الغذاء.. من حضرمن عـمد البلاد المجاورة . وأحيا الليلة قارىء شهير.. فسهرت البلدة ليلتها حتى ساعة متأخرة . وبعـد ها جلس عـبد الجبا ر وبعض رجاله فى البلكونة . وبعـد أن إنتهت التعـليقات عـلى أحداث الليلة . مال عـليه عـمه إبراهيم قائلا :
ـ أنا ماعـنتش فاهمك يا عـبد الجبار!!.
ـ ليه يا عـمى ؟.
ـ أنا عايز أعـرف إنت عـملت كده ليه ؟.
ـ لأسباب كتيره .. أولها عـلشان نعـمل تغـيير فى جو البلد المقفول بقاله مدة .. وكمان كانت فرصه الناس تقابل بعـضها وتتكلم مع بعـضها شويه. وأهم الأسباب ياعـمى .. آهو يصرفوا لهم قرشين كويسين وبلاش يكتروا اللى تحت البلاطه .
فضحك عـمه وهو يقــول :
ـ آه .. من عـقلك الجبار .. يا عـبد الجبار.
عـند ذلك سمعـوا صريخا وزعـيقا .. والناس تجرى نحو المنطقة التى بها أرض العـمدة . أسرعـوا يستطلعـون الأمر.. أحس عـبد الجبار بانقباض لا يعـرف له سببا . وبينما العـمدة ومن معـه يتجهون نحو مصدر النيرأن .. حضراليهم من يخبرهم بأن أرضه .. هى التى تشتعـل فيها النيران . وهى الأرض التى أخذها من أولاد أبو العـز.. والشوربجى .. عـلى وجه التحديد .. وكانت مزروعـة قمحا . ومساحتها خمسة أفدنه .
مادت الأرض من تحت قـدميه .. أحس بأن خنجرا غـطه فى قـلبه .. بطعـنة هائلة . "أرض العـمدة .. تحرق.. ومحصولها عـلى وشك الحصاد ؟!. أى أن الفاعـل أراد له ألا يهنأ بما ناله منهم .. كما أنه أراد أن يرد عـلى سم البهائم ". فهرع بتلقائية إلى موقع الحريق .. وأمر بحصد الأراضى المجاورة للأرض التى تحترق .. حتى لاتطالها النيران . فأسرع الرجال لتنفيذ ما أمر به .. وتم محاصرة النيران فى أرضه وإن لم تحترق بالكامل .
وهم عائدون .. اقترب منه وفيق وهمس له :
ـ أحرق عـليهم دورهم الليلة .. قبل ما النهار يطلع وتبرد نارنا ؟.
ـ أنا عـايز.. أراضى العـيلتين بالكامل .. وفى عـز النهار .. ساعـة صلاة الضهر .
ــ 24 ــ
بعـد عـودة العـمدة .. جلس فى البلكونة .. تحيط به هيئة أركانه . وبعـد قليل .. إنضم اليهم .. وفيق .. فى أول تدخل عـلنى .. فى صنع القرار. ساد الصمت .. لبعض الوقت .. وحيث اعـتادوا ألا يتكلم أحد إلا إذا بدأ العـمدة الحديث .. ونظرا لأنه كان شارد الذهن .. فـقد لاذ الجمع الصغـير بالصمت .
لم يكن عـبد الجبار يتصور أن تتسارع الأمور بهذا الشكل .. ولا أن تصل إلى ما وصلت إليه . أن يقوم رجال من القرية التى هو عـمدتها .. والمسؤول الأول عـن الأمن فيها .. بحرق أرضه فى رد فعـل إنتقامى ومنه هو شخصيا!.فـمعـنى ذلك أولا أنه فشل فى توفير الأمن لنفسه.. وثانيا فإن ذلك يجعـله مضطرا للجوء إلى نفس الاسلوب أو أشد منه .. لردع مواطنين .. المفروض أنهم يعـيشون فى كنفه وحماه .. فإن ذلك يعـنى أنه يقول لهم .. ردوا عـلى فـعـلى بنفس المستوى أو أكثر منه . مما يعـنى من وجهه نظره .. أنه ينزل بنفسه من مستوى المسئول الأول عـن البلدة ومن فيها .. إلى مستوى شيخ المنصر . وما يكاد يفقده صوابه.. أن يواجه بمستوى إجرامى مساو.. أن لم يكن أزيد . فإن يقتحم عـرينه .. وتحرق أرضه .. فمعـنى ذلك فى يقينه .. أنهم يريدون أن يقولون له بالفم المليان طظ فيك يا عـمدة أنت وخفرك وشيخهم كمان .. وكل أركان السلطة فى البلد . وعـندما وصل به عـقله إلى هذا الحد . وجد نفسه تستقر.. وعـقله يقرر.. أنه طالما بدأ اللعـبة .. وقبل بها .. فما عـليه إلا أن يتحمل نتائجها للنهاية وليكن ما يكون . فمن غـيرالمعـقول أن يصل به الأمر عـند أى مستوى من الصراع .. أن يقف ويقول لهم .. طب والنبى كفايه كده وتعـالوا نتفاهم . لأن ذلك ليس له إلا معـنى واحدا .. هو يرفضه ويأباه بشدة .
وعـلى ذلك إستقر رأيه عـلى الاستمرار إلى النهاية .. ولن يتوقف إلا بعـد أن يجردهم من كل قوتهم .. الأرض والبهايم .. وحرق البيوت إذا لزم الأمر. عـندما وجد نفسه يصل إلى هذا الحد من التفكير.. توقف لحظة .. هرش رأسه بيمناه .. نظر فى الجالسين حوله ." لكن ياعـبد الجبار.. أيصل بك الأمرفـعـلا النزول إلى هذا المستوى ؟!."
أفاق إلى نفسه .. وقـف من جلسته .. فـوقـف له كل الجالسين . عـاد للجلوس .. فـعـادوا . وبعـد لحظات .. قـال لمن حوله :
ـ أيه قولكم يارجاله .. بعـد ما وصل الحال إلى ما هو عـليه دلوقت ؟
ـ الحال بقى لايسر عـدو ولا حبيب يا عـمده . قال ذلك عـمه إبراهيم .. فلاذ الجميع بالصمت مرة ثانية . وعـند ذلك قال وفيق :
ـ إيه .. سكتم ليه ؟. ماعـدش فيها رجوع .. بعـد حرق أرض العـمدة .. ماعـدش فيها تراجع خلاص . ولابد من رد القلم قلمين .. ولا عايزين عـمدة البلد وكبيرها يروح لعـندهم ويقول لهم خلاص ياجماعه حقكم علىّ . وهاتوا إيدكم أبوسها كمان .
فهتفوا كلهم فى نفس واحد :
ـ مين قال كده .. دى تبقى مهزلة المهازل !.
ـ طيب ساكتين ليه ؟.
ـ اللى يقوله العـمدة عـلى راسنا كلنا . رد عـليهم وفيق :
ـ العـمدة مش هايقول حاجه.. وكمان مش مفروض يعـرف احنا ها نعـمل إيه .وأنا بقول له دى الوقت أمامكم.. بعـد إذنك يابا العـمدة..المفروض ما تحضرش الجلسه دى.. قـوم مـشى رجليك شويه لغاية ما نتفـق .
وجد عـبد الجبار.. كان إبنه وضع يده عـلى الجرح الذى يؤلمه.. فقد كان فعـلا يريد أن يكون بعـيدا عـن ذلك.. ولكنه وجد نفسه مرغـما عـنه وسط الجلسة . ولهذا سارع واقفا وهو يقول فى نفسه " الواد وفيق جاب التايهه ". ودخل السراية .
استمرت الجلسة التى سادها الصمت المذهول لحظات . فلم يكن يتصور الجالسون أن تصل بهم الامور إلى أن يصبحوا هـم أصحاب القرار بالنيابة عـن العـمدة .. وخاصة فى أمر كهـذا. أو أن يكون ابن العـمدة هو صاحب القرار نيابة عـن أبيه . ووجدها وفيق فرصة لحسم الأمر وهم هكذا مذهولون .
ـ فـيه حل تانى غـير اننا نحرق أراضى العـيلتين بالكامل ؟ . قالوا وهم عـلى نفس حالهم من الذهول .
ـ لا .
ـ خلاص .. عـداكم العـيب . مالكومش انتم دخل بالتنفـيذ .. وكل واحـد يروح داره كما لوكان مايعـرفش حاجه خالص .
لكن الشيخ إبراهيم أفاق إلى نفسه وقال :
ـ لكن يا بنى ده يبقى خراب بيوت .
ـ واللى عـملوه .. يعـنى مش خراب بيوت ؟. فرد شيخ الخفـر :
ـ خراب .. بخراب . وانصرف الجمع كل إلى داره كما طلب وفـيق .
ــ 25 ــ
دخل العـمدة حجرة المضيفة. طلب كـوبا من الشاى. أغـلق الباب عـليه .. وجلس عـلى الأريكة .. مسندا رأسه إلى الحائط كما اعـتاد كلما خلا إلى نفسه . كأنما يكون فى حاجة لأن يسند رأسه إلى شىء ما . وأخذ يرتشف الشاى فى صمت.. شارد الذهن .. حتى أتى عـلى مافى الكوب دون أن يدرك .
" كان يجب عـلى أن أبتعـد عـن مثل هذه الأمور من الأول .. أن أتركها لغـيرى .. وفيق .. عـمى .. شيخ الخفر.. أوحتى شيخ البلد . أى واحد من دول كان يقدر يقوم بالمطلوب وأكتر .. وكنت فضلت أنا بعـيد . وليه ده كله ؟. ماهو وفيق هو ورجالته اللى قايمين بالواجب .. وكنت عـملت إنى ما أعـرفـش أى حاجه عـن اللى بيحصل لا أنا ولا إبنى.هو إحنا ها يوصل بينا الحال..لدرجة إننا نحرق أرض ؟!.. أو نسرق بيوت ولا حتى نسمم بهايم ؟!. الحاجات دى لها ناسها اللى تقوم بيها وإحنا بعـيد خالص."
الحـق يقال أن الرجل .. كان بداخله.. شىء من الرفـض لمثل هذه الأمور .. فـطوال عـمره لم يكن ميالا للعـنف .. أو حتى أن يأخذ حقه بالقوة . أما أن يصل به الأمر لدرجة أن يأمر بسرقة أو حرق.. فهذا بعـيد جدا عـن شخصيته . حتى أنه كان يقول لنفسه " أمال يعـنى هاسيب إيه لشيخ المنصر." لذا فـقد وجـد فى نفـسه راحه كبيره عـندما طلب منه وفـيق .. ترك الاجتماع والبعـد عـن هذه الأمور. " ومن هنا وجاى .. ماليش دخل باللى بيحصل واللى هايحصل . وأهو شيخ البلد وشيخ الخفـر موجودون . وأفوق أنا لتربية العـيال .. دول بقوا خمسة فى عـن العـدو.. أربعة صبيان وبنت من رقـيه وحدها . وآهى فرصه برضه الواد يتعـود عـلى أمور العـموديه . عند هذا الحد .. انتبه فجأة . " وفـيق العـمدة من بعـدك .. بعـد العـمرالطويل لك ياعـبد الجبار ". أعـجبته الفكرة .. أو ربما وجد قـلبه يميل إليها .. فأخذ يرددها فى نفسه مرات وهو يهرش رأسه بيمناه .
" طب وفيها إيه .. يعـنى مين هايكون أنسب منه للعـمودية من بعـدى ؟؟. إيه اللى جرالك ياعـبد الجبار.. إنت ياعـنى قاعـد تحسبها ذى اللى هاتموت بكره . وفيها إيه ؟. هو فيه حد ضامن عـمره . والله الواد مناسب ليها قوى . طب أيه قولك فى رقـيه مراتك ؟ . هاتسكت وعـندها أربعة صبيان ؟. بس دول لسه عـيال صغـيرين يا عـبد الجبار. ووفـيق الأولى ." عـندما وصل بفكره إلى هذا الحد وجد نفسه يقول بصوت عال :
ـ أيه ده ياعـبد الجبار .. إنت قاعـد تفكر فى أيه ؟. هو ده وقته ؟. ما تخليك فى المصيبه اللى أنت فيها . توقـف عـقله عـن التفكير.. وقف من جلسته .. أخذ يدور فى الحجرة . جلس من جديد .
ـ خلاص .. مافيش حل غـير كده .. وفـيق يتولى هذه الأمور وهـو حـرهـو ورجالته فى اللى يعـملوه.. مع الشوية العـيال دول .
عـند ذلك تصاعـد من داخله صوت آخر :
ـ بس ده لسه صغـير .. شاب طايش .. لأ .. لأ .. مش طايش .
ـ طيب ياسيدى مش طايش .. بس الشباب ميله للعـنف أكتر .. لازم برضه يكون فيه لجام يلجمه عـند اللزوم .
ـ طب .. هو أنا يعـنى رحت فين ؟. ما أنا برضه موجود بس من بعـيد . وكمان عـمى إبراهيم وشيخ البلد موجودون .
عـند ذلك وجـد وفـيق يدخل عـليه الحجرة .. بعـد انصراف من كانوا معـه .
ـ هيه ياوفـيق .. وصلتوا لايه ؟.
ـ ما تشغـلش بالك يابا .. إبنك راجل يعـتمد عـليه .
ـ بس عـايزك يابنى تتحلى بالحكمه كده .. وتتصرف بعـقل .. وتعـمل لكل شىء حسابه .
ـ ما تقلقـش ياعـمده .
قال ذلك وترك والده وخرج يرتب أموره مع رفاقه .
ــ 26 ــ
وقد اقتربت الشمس من كبد السماء .. فى يوم صيفى حار نسبيا.. والناس تتأهب لصلاة الظهر. إذ بصراخ نساء.. اختلط بزعـيق رجال . والكل يجرى إلى الحقول بالناحية الشرقية للبلدة . حيث تصاعـدت ألسنة النيران من أربعـة مواقع متفرقة والدخان يتصاعـد إلى الأفق . خرج العـمدة محاط بمن حضر من رجاله .. تبعـه بعـد لحظات ..وفيق محاط بحشد من رجاله .. والكل متجه إلى مكان الحريق وعـلامات الأسى تكسو الوجوه . وعـندما وصلوا إلى موقع الحرائق كانت النيران قـد أتت عـلى أعـواد القمح .. بالمواقع الأربعة . والتى تصل مساحة كل قـطعـة منها إلى فـدانين . فـقد جرت النيران فى الحقول .. لحرارة الجو من ناحية ولجفاف العـيدان لقرب الحصاد من ناحية أخرى . وعـلى ذلك فقد تلاقى ركب العـمدة الذاهب.. مع ركب الرجال الذين قد سبقوا إلى المكان وفى طريقهم للعـودة بعـد إنتهاء الحريق . وأن بقى أصحاب الأراضى المجاورة للتى إحترقـت .. وخشية عـلى محصولهم .. أخذوا فى حصاده بداية من المناطق المجاورة للأراضى التى احترقت. توقف العـمدة وركبه مع بعـض العائدين.. يسألهم عـما حدث كما لو كان لايعـلم شيئا .
ـ أرض مين يارجاله ؟.
ـ أراضى أبو العـز والشوربجى .
ـ اتحرقـت .. لاحول ولا قـوة الا بالله .
ـ عـليه العـوض ومنه العـوض .
هكذا ردد شيخ البلد .. بعـده .
توقف الجمع لحـظات .. فـلحق بهم ركب وفـيق ومن معـه .. فإزداد الجمع كثافة . وأخذ البعـض منهم يحكى عـما بذلوه من جهد فى محاولة إطفاء النيران . إلا أنها كانت أسرع من أى جهد لوقفها . والبعـض الأخر يتسائل :
ـ وآخرة اللى بيحصل ده أيه يا ناس ؟.
ـ الخـراب للجميع .
ـ هى الناس ناقـصه ؟.
عـند ذلك وجه شيخ الخفرحديثه للعـمدة .
ـ إرجع إنت بقى ياحضرة العـمدة .. وأنا هاروح أعاين مكان الحريق .. وأشوف أن كانوا هايقدموا بلاغـات ولا لأ .
ـ ماشى ياشيخ الخفـر.
وعـاد الجمع .. حتى اذا وصل العـمدة ومن معـه إلى السراية .. وبعـد لحظات صمت .. قال إمام المسجد :
ـ عــم الخراب فى البلد .
ـ من قـلة عـقول الناس .. هو فـيه حد برضه ينتقم من ابن بلده بسم بهايمه وحـرق أرضه .
هكذا بادر الشيخ إبراهيم .. إمام القـرية .
ـ ده كفـر والعـياذ بالله .. ده حتى الكفـره مابيعـملوش كده فى بعـض . هكذا أكـد الإمام .. ثم أكمل :
ـ وبعـدين ياحضرة العـمدة وكبيرها ؟.. العـمل أيه ؟.
ـ العـمل عـمل ربنا يامولانا .. أنا بس بإيدى إيه أعـمله وأنا أعـمله ؟!. إللى يعـرف مين اللى عـمل كده .. يقول . وإن كنت أتأخر عـن القيام بواجبى .. يبقى لكم الحق وللبلد كلها الحق تعـملوا فىّ اللى أنتم عـايزينه .
ـ لاسمح الله ياعـمده .. هو فـيه حد قال فى حقـك أى حاجه . ينقطع لسان اللى يقول فى حقك نصف كلمه .. وحتى قبل ما يقولها .
ـ أيوه يا سيدى .. بعـد سم البهايم . اتهمونى كده بالمتغـطى إنى أنا اللى وراها .. أمال اتحرقـت أرضى ليه يامولانا . وزمانهم دى الوقـت .. بيتهـمونى برضه بالمتغـطى إننى اللى ورا حرق الأرض النهارده.. إنتقاما من حرق أرضى..خلينا نتكلم عـلى المكشوف يا مولانا .
ـ لاحول ولا قوة الا بالله العـلى العـظيم .. ده إنت معـروف طول عـمرك.. بنظافة اليد .. وطيبة القلب .. وأنا شاهد عـلى ذلك والله عـلى ما أقـول شهيد .
ـ تقـول أيه بقى يا مولانا ؟.
ـ يقول أيه .. هو والاغـيره .. هو فـيه عـمده بيحرق أراضى ولا بيسم بهايم .. يبقى عـمده إزاى وهو مسئول أصلا عـن سلامة الناس وأراضيهم وبهايمهم . قال ذلك الشيخ إبراهيم .
ـ لا ياعـمده لا .. مالكش حق .ينقطع لسان كل من لسن عـليك بكلمه . قال ذلك شيخ البلد . فـوافـقه كل الجالسين .. وتعـالت صيحات الموافـقه والاستنكارعـلى الإتهام .
ـ عـموما كل واحد منه لله .. هو المطلع عـلى القلوب وخفايا النفوس . قال العـمدة ذلك حسما للنقاش وإنهاء للجدل وترفعا .
ساد الصمت بعـدها لحظات .. إستأذن بعـدها الإمام منصرفا .. وتلاه الجمع فرادا .. حتى إذا وجد العـمدة نفسه وحده .. نظر إلى الجهه المقابلة حيث إعـتاد وفـيق الجلوس. فـوجده قـد خلع الطاقية التى تعـود وضعـها عـلى رأسه .. وأخذ يهرش فيها وعـلامات الرضى تكسو وجهه . أسند رأسه إلى الحائط خلفه .. أغـمض عـينيه .
" وبعـدها يا عـبد الجبار .. الناس دى هاتعـيش ازاى؟.. وتاكل منين ؟. دول شويه الغـلة اللى بيستنوهم من السنه للسنه واتحرقـوا . طيب الناس دى هاتعـمل إيه ؟. ومين اللى قال لهم يحرقـوا أرضى ؟. أيه ياعـبد الجبار؟. إمتدت يده اليمنى بتلقائيه .. تهرش رأسه . التفـت إلى وفـيق وناداه .. حتى إذا جلس بجانبه .. قال :
ـ وبعــدين ياوفـيق .. الناس دى هاتعـيش إزاى ؟.
ـ زى ما غـيرهم عـايشين .
ـ أقصد يعـنى بعـد حرق غـلتهم ..هايكلوا منين يابنى؟.
ـ يابا .. هو فـيه حد بيموت من الجوع ؟. يشتغـلوا .. ياسيدى أنا موافـق ييجوا يشتغـلوافى أرضنا .. ولا أقول لك.. يبيعـو الأرض .. مادام هما ما عـدش حيلتهم حاجه .. ونبقى نتوصى بيهم شويه فى التمن .
ـ يخرب عـقلك ياوفـيق .. ده إنت شيطان ياوله .
ـ ليه يابا العـمده .
- تقصد يعـنى أن حرق الأرض يخليهم يبيعـو أرضهم .
ـ إمال يعـنى هايعـملوا أيه ؟.
ـ وأن عـاندوا ومارضوش يبعـوها لنا .
ـ ومين ساعـتها اللى ها يجرؤ أنه يقرب منها .
ـ إزاى يعـنى ؟.
ـ سيب الموضوع ده عــلى .
ضرب العـمده كفا بكف وقــال :
ـ ده أنا عـمرى ما فكرت كده .
فـقال وفـيق وهو يضحك ملىء فيه .
ـ وانت تفكر ليه .. وتتعـب نفسك وأنا موجود ؟!. سيب التفكير والتدبير ليا أنا .
نظر عـبد الجبار لإبنه وهو يقول فى نفسه :
ـ ياويلك يا بلد .. من وفـيق إبنى .
وقـام من مجلـسه .
ــ 27 ــ
سرعان ما انتشر فى البلدة .. الحوار الذى دار بين العـمدة والإمام .. وأخذ الناس يتداولونه فى مجالسهم .. ومنهم من قالها واضحة :
ـ وهومين يعـنى له مصلحه فى كده غـير العـمدة ورجالته ؟!.
ومنهم من استبعـد أن يكون للعـمدة يـد فـيما حدث .. وإنما الذى وراء هذه الأفعـال إبنه وفـيق .. ومن حوله من الشباب والرجال . فالعـمدة طوال عـمره ومن أيام أن كان شيخا للبلد وهو معـروف عـنه نظافة اليد .. والطيبة . ولم يسمع أحد من أهل البلد يوما عـنه أى شىء يسىء إلى شخصه كعـمدة . كما أن الرجال المحيطين به هم كبار رجال البلد وكبار عـائلاتها .. ومن المستحيل عـلى أى منهم أن يقترف مثل هذه الأعـمال من أجل خاطرالعـمدة أوغـيره . إنما الذى يمكنه فعـل ذلك .. ولديه القدرة عـليه فعـلا .. هو إبنه وفـيق . فـمنذ بلوغـه سن الشباب وسيرته بطاله مع بنات ونساء القـرية . مما جعـل العـمدة يسارع فى تزويجه . إلا أن سيرته مازالت عـلى كل لسان .. وإن كان فى مجال آخر. حيث انتشرت سرقة البهائم من الحقول ليلا..وهى دائره فى السواقى ..أو وهى ذاهبه أو عـائده من الحقول .
حيث يخرج عـليهم من بين الأشجار أو من بين عـيدان الذره .. من يرفـع فى وجه الفرد منهم سلاحه .. ويطلب منه ترك البهيمة والنفاذ بجلده .. فيتركها ويعـود إلى داره جريا . ويوم أن وقـف أحد الشبان لهم يوما.. متحديا .. خرج عـليه أكثر من عـشرة رجال .. وقاموا بربطه بالحبال عـلى ساق إحدى الأشجار .. وانهالوا عـليه ضربا .. وتركوه مربوطا حتى الصباح .. بعـد أن جردوه من كل ملابسه .
كما انتشر فى القرية .. سرقة أجولة الأرز .. والقمح. التى يقومون بتخزينها فى بيوتهم للاستهلاك منها حتى المحصول القادم. بالإضافة لسرقـه الطيور من أمـام الدور. كل ذلك أرجعـه أهل البلدة إلى رجال وفـيق الذين يتمتعـون بحمايته . ولم يجرؤ أحد أن يفتح فـمه ليقول للعـمدة أو حتى شيخ البلد . فالكل يتحمل صامتا خشية من أن تزداد الأمور سوءا .. ويحمد ربنا عـلى ماهو فـيه . ومن الناس من يؤكد أن ما يتم بعـلمه وتخطيطه .. لبث الرعـب بين أهل البلد . وربما نسبت اليه أعـمال لم يقـم بها رجاله .. لكن أهل البلده تعـودوا أن ينسبوا له كل مايحدث .. وبينه وبين نفـسه كان يسعـده ذلك .. وكان يقول لمن حوله من أتباعـه :
ـ أحسن .. عـلشان يزداد خوفهم منى أكتر وأكتر .
أما العـمدة فـلم يكن يصدق .. أن يكون وفـيق وراء كل ما يحدث فى البلد .. ويبلغـه به رجاله . وكان يقول لنفسه :
ـ إمال فين الحراميه اللى كانوا فى البلد .. ولا كلهم بقـوا من رجالة وفـيق ؟!.
ــ 28 ــ
وصل إلى مسامع العـمدة وابنه .. أن البعـض من جيران عـائلتى أبو العـز والشوربجى .. وأقاربهم قاموا فى الخفاء .. بإمدادهم بالقـمح والأرز اللازم لإستهلاكهم طوال العـام . فـوجد ذلك الأمر صدى طيبا فى نفس العـمدة . أما وفـيق فـقد اغـتاظ منه وهدد وتوعـد بينه وبين نفـسه .. كل من يعـرف أنه قام بذلك من غـيرالأقارب والجيران . فهم فقط المسموح لهم بذلك أما ماعـداهم فلا يجب أن يقـوموا بإمداد خـصومه بما يلزمهم .. وإلا يعـتبر ذلك تحديا شخصيا منهم له . ولأن الكل فى البلده يعـرف من هو وفـيق .. ويده الطويله . فإن تحديه ليس بالأمر الهين عـلى أى فـرد . ولا يمكن أن يفكر فيه . وخاصة بعـد أن سرى بين الناس أن العـمدة ترك مسئولية العـمودية له . وعـلى ذلك تهافت كل صغـير شأن .. يريد أن يكون له شأن فى التقـرب منه ووضع نفـسه تحت تصرفه .. بل والتبارى فى إرضائه ونيل شرف القرب منه . وأصبح كل شىء عـنده بثمنه .. لأن معـنى أن تكون كذلك .. أن تتمتع بالحماية التى يسبغها عـلى رجاله .
وفى سهرة أعدها له أحد خلصائه .. وبعـد عـشاء يتناسب ومقامه .. وبينما يحتسيان الشاى مال عـليه مضيفه وقال :
ـ أنت ماسمعـتش عـن الجرارت الزراعـيه ؟!.
ـ لأ .. أيه دى .
ـ آله تحرت وتروى .. بدل البهايم .. وكمان لو جبنا لها مقطوره تحمل عـليها اللى إنت عـاوزه .
ـ شفتها ؟.
ـ سمعـت عـنها الأول .. وبعـدين وأنا فى البندر الأسبوع اللى فـات .. شفتها فى معـرض .
ـ ودى بكام .. الواحد ؟.
ـ يدوب كده .. تمن فـدأن أرض .
ـ مش غـاليه ؟.
ـ لأ .. ده لو إحنا جبنا واحد وأجرناه للناس .. فى الحرت والدراس والرى .. شوف بقى إنت .. طول السنه بيشتغـل .. لايكل ولا يمل .
وأكمل أحد الجالسين :
ـ ولا لبنها يقـل .. ولا تقع وتندبح .
ـ وكمان ماكينة ميه .. وتبقى العـملية كملت .
لاذ وفـيق بالصمت لحظات .. يقلب الأمر عـلى جميع جوانبه .. ثم سأل :
ـ ودى تتأجر إزاى؟.بالساعه ولا باليوم ولابالفـدأن؟.
ـ سألت .. قالوا لى بالساعه فى الدراس والرى وبالفـدأن فى الحرت .
ـ والله كويس .. طيب بتشتغـل بأيه ؟.
ـ بالسولار .
ـ وده هانجـيبه منين ؟.
ـ اللى بيتاجر فى الجاز.. يجيب معـاه السولار .
ـ طيب .. وأنت كصاحب الفكره .. عـايز من وراها أيه ؟.
ـ يعـنى كلك نظر يا وفـيق بيه .
ـ من الصبح نطلع عالبندر .. ونجيب الجرار وماكينه الميه .. والمقطوره كمأن .. وإنت اللى هاتتولى الإشراف عـلى الجرار ..وتكون المسئول عـنه وعـن إيراده قدامى .. وتشوف له سواق كويس . ونظر إلى الجليس الثانى وقال :
ـ وأنت تكون مسئول عـن ماكينه الميه وإيرادها قدامى . بس لازم ناخد رأى العـمده الأول .. وعـلشان كده أنا هاقـوم ألحـقه قبل ما ينام وآجى لكم تانى نكمل السهرة. وتركهم مسرعا .. ليجـد والـده جالسا بالبلكونه ومعـه عـمه إبراهيم . فالقى عـليهم السلام وجلس بجوار والده .. الذى سكت عـن حديثه ونظر اليه مستفسرا .
ـ خير .. أيه اللى جابك بدرى كده ؟.
ـ فـيه موضوع كده عـايز آخد رأيك فـيه .
ـ خير أن شاء الله .
عـرض عـليه وفـيق الفكرة وأكمل :
ـ وأنا شايف إننا لو جبناهم قبل ما حد تانى فى البلد يجيبهم .. هاتبقى مصالح البلد كلها فى ايدنا .. وكمان ها يكون المكسب مضمون .
صمت العـمدة مذهولاً لحظات .. هو وعـمه . فـلم يكن يخـطر عـلى بالهم مثل هذا الأمر . حقا ربما يكون قد سمع عـن هذه الآلات من قبل .. لكن أن يفكر فى شرائها وإستخدامها أو تأجيرها فـلم يكن يخطر له عـلى بال .
ـ والله يابنى دى فكره مش بطاله .
ـ خلاص عـلى بركة الله .. أنا من صباحية ربنا هاكون فى البندر .. ومعايا ناس تفهم فى الموضوع ده .. وعـلى الضهر بمشيئة ربنا هاتلاقـينا ومعـانا المطلوب .
ـ ومستعـجل ليه كده ؟.
ـ خـير البر عـاجله .
ـ طب عـايز فـلوس ؟.
ـ خـيرك موجـود .
وانصرف مسرعاً ليكمل سهرته .
مال العـمدة عـلى عمه قائلا :
ـ الواد مخه نضيف .. ياعـم إبراهيم .
ـ ربنا يبارك لك فـيه .
ــ 29 ــ
لم تكن رقـيه .. غـافـلة عـما يقوم به وفـيق .. وعـما وصل اليه من سطوة فى البلده . وكانت تطوى ما فى نفسها .. معـللة ذلك بأن أولادها مازالوا صغـارا .. فأكبرهم لم يتجاوز الثانية عـشر من عـمره . كما أن الأمور لاتعـدوا أن تكون تصرفـات فرديه .. لم يترتب عـليها شيئا جديا .. كان يقوم العـمدة مثلا بكتابة أرض باسمه أو ماشابه ذلك . ومع ذلك .. الأمر لم يخلو.. من بعـض التلميحات منها للعـمدة بين حين وآخر . وخاصة عـندما يصلها أمر من أمور وفـيق . إلا أن العـمدة كان حاسما معـها فى كل مرة أثارت فيها هذا الموضوع قائلا لها وبكل وضوح :
ـ بقـول لك أيه .. كلهم أولادى .. وبلاش تفتحى الموضوع ده أمام أى حد . خللى الأولاد يطلعـوا يحبو بعـضهم .. ووفـيق أخوهم الكبير ومالوش بركه إلا هما . ثم أنى ماميزتش وفـيق عـن أى واحد منهم فى حاجه .. وأن شاء الله بعـد عـمر طويل كل واحد ياخد نصيبه الشرعى . وإياكى تفتحى الموضوع ده تانى .
إلا أنها لم تطق نفسها .. وكان النار ولعـت فى جسدها.. عـلى حد تعـبيرها هى لأبيها ليلة وصول الجرار ومستلزماته . وخاصة بعـدما تقصت وعـرفت أن الذى سيدير أمورها وفـيق . واعـتكفت فى حجرتها وأغـلقت عـليها الباب من الداخل .. وتربعـت عـلى السرير .. وإرتكزت بكوعـيها عـلى ركبتيها وبكفيها عـلى خديها . وقد ربطت رأسها بوشاح أسود . وأخذت رأسها تدور :
ـ بكره القرش يجرى فى إيده .. بكره إيه . ده من زمان والقـرش فى إيده .. مش هو اللى بيزرع الأرض وبيصرف عـليها .. وهو اللى بيبيع المحصول كل مره وبيقبض حقه فى إيده . الله أعـلم بيعـطى لأبوه أيه وبياخد أيه لنفسه. وكمان عـايش فى البلد بالطول والعـرض ومراته لابسه دهب لغاية كيعانها الإتنين .. منين ده كله يابت يارقـية ؟. وآخرة المتمه يجيب جرار وماكينة الميه والمقطوره بالشىء الفلانى .. عـلشان يبرطع فى البلد كمان وكمان . وبكره هو اللى يصرف عـلى البيت .. وجوزك قاعـد كده زى شرابة الخرج . ماهو كبر وما عـدش قادر عـلى حاجه .. وبكره كمان العـيال يمدوا إيدهم له ويقـولوا له هات يابا وفـيق المصروف . تبقى القيامه قامت يابت يا رقية .
وأرسلت لأبيها خفية .. فوافاها عـلى عـجل وأدخلته الحجرة وأعادت غـلق الباب خلفهما . وأفضت اليه بكل ما يساورها من شكوك ومخاوف .. وما يدور فى رأسها من أفكار . فاستمع الرجل إليها بصبر حتى إذا إنتهت من كل ما عـندها قال:
ـ إسمعـى يابنت الناس .. ممكن يكون اللى بيدور فى دماغـك ده كله صحيح .. وممكن يكون عـندك حق فى اللى أنت قولتيه كله . لكن يابنتى عـايزك تكونى حكيمه . وتطوى عـليه قـلبك وما يطلعـش لحد..حتى لجوزك .ليه؟.. عـلشان مافيش فى إيدك حاجه تعـمليها .. وكمان ماحدش فى البلد النهارده عـاد يقدر عـلى وفـيق.. حتى أبوه نفـسه . ها تيجى إنت تقفى قدامه ؟. وكمان العـمده فى الأول والآخرعـمره ماها يرضيه يظلم حد من ولاده ولا يدى حد أكتر من التانى . وحتى يعـنى لو حصل وانظلم حد ..وده مش هايحصل أبدا وأنا عارف عـبد الجبار كويس ومتأكد أنه عـمره ما يعـملها . فالخير كتير .. يكفى الأولاد كلهم ويفيض . ما تخليش الشيطان يلعـب فى عـبك ويخرب عـليكى إنت وعـيالك .
ـ يعـنى إنت يابا شايف كده ؟. قالت ذلك بعـد أن اقـتنعـت بمنطق أبيها .. والتى تعـرف طريقة تفـكيره جيدا.
ـ أيوه أنا شايف كده.. واكفى خيرك شرك .. وإقفـلى الموضوع ده خالص .. وطلعـيه من دماغـك . وتركها وخرج كما عـاد .
فقامت وبدلت ثيابها .. وهيأت نفسها وخرجت لتجلس مع الجالسين فى صحن الدار يعـبرون عـن فـرحتهم بما أحضره وفـيق من البندر .
ــ 30 ــ
أراد أنصاروفـيق ورجاله الإحتفال بالجرار ومشتملاته إحتفالا كبيرا .. بأن يقطروا الماكينة بالجرار ويدورون بهما حول البلدة . إعلانا بالسبق .. واحتفالا بما إعـتبروه نصرا لهم عـلى خصومهم . إلا أن العـمدة إستهانة منه بخصومه من ناحيه ومن ناحية اخرى فهو يرى أن الفرحة فى القـلب ولا تحتاج إلى طبل وزمر . وعـلى ذلك أمر بألا يتجاوز الإحتفال الجرن والأرض الخلاء حول الدوار . حتى إذا أرخى الليل أسدله .. وبدأ الظلام يحتضن البلدة .. ويحتويها بين طياته .. طلب العـمدة من سائق الجرار .. ركنه بجوار السراية مع مشتملاته حتى يكونوا ضمن ما يحرسه خفيره الخصوصى .. حتى يتم بناء جراج خاص لهم . وقررت جماعـة وفيق .. السهر هذه الليلة بجوارهم حتى الصباح .. ليس خوفا من السرقة .. وإنما إستمرارا للإحتفال.ولأن العـمدة أمر بأن يخرجوا مع إشراقة شمس الغـد لرى أرضه القبلية . تمهيدا لشتل الأرز وإعـادة غـرسه فى الأرض المروية .
وجلس العـمدة فى مكانه المعـتاد محاطا برجاله وأنصاره .. الذين هلوا عـلى مجلسه للمباركة وإعـلان الفرحة .. حتى إذا إنتهى السمر .. وبدأ الرجال فى الإنصراف .. ولما وجد عـبد الجبار نفسه أخيرا وحده .. أسند رأسه للحائط خلفه .. هرشها أسفل الطاقية ..أغـمض عـينيه .
" والله ياعـبد الجبار .. فـكرة الواد وفـيق جات فى محلها تمام .. وعـلى كده الجرار يقوم باللى كانت بتقوم به البهايم .. ونخليها للتربيه ..أقله تلحم كده ولبنها يزيد .. يعـنى الخير جاى من وراها من جميع النواحى ". وعـلى ذلك وجد بداخله ميلا واضحا لمسا لمة خصومه .. وما عـدش فـيه داعى بقى للعـداوة .. وندور عـلى اللى ورانا . هو يعـنى آخرة السكه دى أيه؟. الخراب لهم .. قبل مايكون ليا . فأنا العـمدة واللى معـايا مهما كان برضه أكتر من اللى معـاهم . ياريت ربنا يهديهم ويبطلوا اللعـبه دى معـايا. عـندما وصل إلى هذا الحد .. طرأت عـليه فكرة :
ـ فيها أيه ياواد ياعـبده إما تعـملها وتبين حسن نيتك ناحيتهم .. وتخـللى وفـيق يحرت لهم أرضهم ويرويها المره دى مجانا .. كمساعـده لهم . لكن إفرض فهموك غـلط ؟. وإنى خايف إنهم ينتقموا لحرق أرضهم . خايف .. خايف من أيه ؟. ده أنا برضه العـمده . وهخاف منهم ليه .. وبأمارة أيه إن شاء الله ؟". وقف من جلسته ..وأخذ يتحرك فى البلكونه .
"وإفرض رفضوا الموضوع ده من أصله .. ألا يكون فيها إحراج لك ؟.. وإحراجها أيه ؟. أقل مافيها البلد هاتقول :
ـ العـمدة بقـلبه الكبيرمد لهم يد المساعـده وهما اللى رفـضوا. بعـدها يبقى أكبرمافى خيلهم يركبوه. ويستاهلوااللى يجرى لهم بعـد كده ".
بدا لعـبد الجبار أن مادار فى رأسه .. يستحق محاولة تنفيذه . وإستهوته المحاولة .. فـإتجه للناحية التى يجلس بها وفـيق ورجاله ونادى عـليه .. حتى إذا وقـف قبالته .. عـرض عـليه ما دار فى رأسه :
ـ والله يابا .. كلامك معـقول وما فيهش حاجه غـلط.. بس ولاد بلدنا مش هما اللى هايفهموا الكلام ده . ساعة ما تمد لهم إيدك .. ها يقولوا .. شوفوا العـمدة أهو بيعـترف إنه هو اللى عـمل فينا اللى إتعـمل كله .. وجاى فى الآخر قال أيه يمد لنا يد المساعـده .. وساعـتها ها يتخنوا رقابيهم ويلاقـوا اللى يسمع لهم .. ويقـول لهم والله إنتم معـاكم حق.
ـ يابنى .. فى كل الأحوال إحنا مش خسرانين حاجه .
ـ هاقـولك عـلى حاجه .. أيه رأيك .. إحنا نسيب الأمور كده بطبيعـتها .. ومش هانمد إيدينا عـليهم تانى .. حتى ياسيدى لو عـملوا هما حاجه.. يبردوابها نارهم . إلا لو كانت حاجه كبيره تجبرنا عـلى الرد . وأما موضوع الحرت والرى .. فوالله أن هما طلبونا فى حاجه نروح ونعـمل اللا زم .. وساعـتها نقول لهم .. دى عـربون المحبه .. أو أى حاجه عـايز تقولها . تبقى كده الأمور ماشيه صح .. وإحنا حافظين كرامتنا . أيه قولك فى كلامى ده ؟.
ـ والله يابنى كلامك كده كويس .. خلاص عـلى البركه . ذى ماإتفقنا .
وهكذا أحس عـبد الجبار أنه أرضى الهاتف الداخلى.. الذى يجنح به إلى المهادنة والسلم . واتجه إلى الداخل .. وعـاد وفيق إلى رفاقه .
ــ 31 ــ
جافى النوم عـبد الجبار.. أخذ يتقلب فى الفراش عـلى جانبيه . وعـندما أدرك أن النوم قـد عـانده . نهض من فراشه بجلباب النوم .. حتى اذا بلغ مكان جلوسه المعـتاد بالبلكونة .. جلس . إلا أنه خطر بباله أن يتفقد خفير الدرك .. المعـين لحراسة السراية .. فتحرك بحرص .. حتى إذا وجده يتحرك ذهابا وإيابا حول السراية .. عـاد إلى مكانه .
لم يعـد يدرك سببا مباشرا لمجافاة النوم له .. بالرغـم من حرصه الدائم عـلى أن يأوى إلى فراشه فى موعـد ثابت .. هو منتصف الليل . عـلى أن يستيقـظ قبل شروق الشمس .. حتى يلحق بصلاة الصبح حاضرا .اعـتدل فى جلسته .. وضع ساقا عـلى ساق .
منذ أرسل صغـاره إلى كتاب القرية وهو بين الحين والحين .. يسأل عـنهم وعـن مستوى حفظهم لكتاب الله .. ودائما ما يكيل لهم شيخ الكتاب المديح .. إلا أنه فى يوم سأله بشكل عـارض :
ـ هو أنت مش ناوى توديهم المدارس ولا أيه ياجناب العـمدة ؟.
لم يجب عـليه ساعـتها لأنه فى حقيقة الأمر لم يكن قد فكر فى هذا الأمر من قبل . فلم يخطر بباله أن يرسل أولاده إلى مدارس فى البندر . وكان ينوى أن يترك الأمور تجرى كما جرت معـه ومع أخيهم وفـيق من قبلهم . إلا أن سؤال شيخ الكتاب أثار كوامن شجنه .. فـكم حلم بأن يكون له إبن إماما للقرية مثلا .. وبعـد أن أصبح عـمده .. كم حلم بأن يكون له إبن ظابط شرطه .. حتى يكبر ويكون مأمور مركز كده والدنيا تتهز له .. وهو داخل وخارج .. ويقف أمامه الجميع بكل إحترام .
إستيقظ من أحلامه عـلى سؤال طرأ عـلى ذهنه :
ـ وأيه المانع ؟!.. الفلوس.. وكتيروالحمد لله . لكن إزاى العـيال الصغـيره دى هاتعـيش فى البندر لوحدها ؟. ومن سيعـد لها الطعـام ويراعـيها .. ويقول لهم ذاكروا دروسكم ؟. ماهم صغـاربرضك ولازم حد يراعـيهم . عـند ذلك وجد سؤالا يطرأ عـلى ذهنه :
ـ وفيها أيه إما تروح رقـية مع ولادها ؟.. وآهى أم هاشم موجوده وشايله الدار مع مرات وفـيق . وحتى لو مافيش حد .. هو يعـنى هانموت من الجوع .. كفايه قوى مرات وفـيق تعـمل لنا اللقمه أنا وجوزها .. وتغـسلى هدومى مع هدومه . وآهو الشغالين فى البيت كتير بيساعـدوها . خلاص ياعـبد الجبار .. من بكره تبعـت وفـيق يشوف لاخواته شقة فى البندر ولا حتى بيت صغـيرنشتريه لنا .. بدل ما كل سنه يتنقلوا من بيت لبيت . وبكره ولاد وفـيق يحصلوهم من صغرهم . ومهما كان المستقبل للتعـليم برضه .. وكمان عـيشه البندر أحسن لهم.. أقله يبعـدوا عـن البلد ومشاكلها .. ويتربوا كويس .
إستقر قراره عـلى ذلك .. وكما لو كان هذا الأمر كان السبب فى مجافاة النوم له .. نهض متجها إلى فراشه..وبينما هو يخطو للداخل شاهد وفـيق عـائدا من الخارج .
ـ أيه اللى مصحيك لغـاية دللوقت يابا ؟!.
ـ تعـالى كنت عـايزك .
وعـادا لمجلسه السابق . وسرد عـليه كل ما فكر فيه قبل حضوره .. وما إستقر عـليه رأيه. ولشد ما كانت سعـادته بالغـة .. عـندما وجد الترحيب الشديد منه . وموافقته له عـلى شراء البيت .. آهو يكون ذى إستراحه لهم فى البندر .. كلما أراد أى منهم تغـيير جو .. يقعـد له يومين هناك ويرجع . وياعـالم بكره يحصل أيه .
ــ 32 ــ
قبل صلاة الظهر.. كان وفـيق قـد عـاد من المدينة .. وجلس مع والده يحكى له عـما فعـله .
ـ عـن طريق واحد من السماسرة .. توصلت لبيت من دورين .. كل دور شقتين .. والواحده تلات مطارح .. برحين وكويسين .. ومنافعـهم . وقريب من المدارس والسوق . وتمنه معـقول قـوى ..وفى الإمكان دفعه مره واحده . ودفعـت مبلغ عـربون.. وإتفقت مع صاحبه بأننا هانفوت عـليه بكره .. نخلص فـيه .
ـ وليه ما خـلصتش فـيه ؟.
ـ ما هو لازم نكتب عـقد .. ونسجله فى الشهر العـقارى .. وعـلشان كده لازم تكون معـانا بكره .
ـ وما عـملتش ليه العـقد بإسمك وخلصت ؟.. أبوك ماعـدش حمل سفر .
ـ طول ما حسك فى الدنيا .. كل شىء لازم يكون باسمك يابا .
ثمن عـبد الجبار لإبنه هذا الموقـف عـاليا . وفى نفس الوقـت تيقـن من أن إبنه غـير طامع فى أى من حقـوق أخوته .أو قـل إنه أعـلن ذلك عـلى الأقـل . وكان قد أخبر زوجته رقـيه بما إتفق عـليه مع وفـيق .. أثناء تناوله الشاى بعـد الإفـطار .. وهما جالسان معا .. وطلب منها أن تهىء نفـسها للإقامه مع الأولاد إعـتبارا من بداية العـام الدراسى.
ـ هو أنا فـيه حيل للشغـل وحملأن هم العـيال ؟.
ـ أيه .. ده إنت لسه بنت سبعـ تاشر يابت .
ـ لأ .. لأ .. ما عـنتش أقـدر عـلى كده .
ـ خلا ص .. إبقى خدى واحده من الشغالين معـاكى .
ـ وليه ماتروحش مرات وفـيق .. لسه صغـيره وتقدر عـلى الخدمه ؟!. وولادها ها يكونوا هناك .
ـ أنا مش عـايزالنغـمه دى .. ولادها ولادك .. وولادك ولادها .. سامعـه يا بنت عـبده أبو سليمان ؟.
ـ أنا ما بقولش حاجه .. بس إزاى أسيبك المده دى كلها ؟.
ـ طيب يااختى خشى عـلى بدور حنيه .. نخلى مرات وفـيق تروح شهر وإنت شهر .. ولا أسبوع وإنت أسبوع . وإنتم اللى تتفقوا مع بعـض .. ومش عـايز مشاكل.. سامعـه .
ـ ماشى ياعــمده .
وعـلى ذلك رافـق وفـيق فى اليوم التإلى .. وأتم الإجراءات المطلوبه . وبعـد عـودته .. وهو فى حجرته يبدل ثيابه .. دخلت عـليه رقية .
ـ مبروك ياعـمده .. وعـقبال العـمارات .
ـ الله يبارك فيكى .
وعـندما لاحظ الحيرة مرتسمه عـلى وجهها .. أدرك بينه وبين نفـسه إنها تريد أن تعـرف .. بإسم من سجل البيت ؟. فـمد يده وأخـرج لها العـقد من جـيب الصديرى .. وهو يقول :
ـ العـقد أهو .. خدى عـينيه فى الدولاب . والمفتاح أهو .. بإسمى يارقية .. واخده بالك .. بإسمى .. مش بإسم وفـيق . فإرتسمت عـلى وجهها إبتسامة واسعـه .. وتبددت ملامح الحيرة .. وقالت :
ـ ياخويا البركه فـيك .. وتعـيش لنا .. ويطول ربنا فى عـمرك .
ــ 33 ــ
استقر الأمر فى البلدة .. وصارت مقاليدها كلها تقريبا فى يد وفـيق . ولم يطلب أحد من عـائلتى أبو العـز والشوربجى .. تأجير وابور الحرث أوماكينة المياه . وإنما كانوا يعـتمدون فى ذلك عـلى مالديهم من بهائم .. ورجال . وبمرور الأيام استطاعـوا .. بمعـاونة الجيران واعـتمادهم عـلى أنفسهم .. أن يقفوا عـلى أرجلهم من جديد . وأن كانوا تجاوزوا مرحلة العـداء مع العـمدة .. إلا أن ما فعـله بهم يمثل جرحا عـميق الأغـوار فى صدر كل منهم .. تركوه للزمن .
وهكذا سلس قياد البلد .. للعـمدة و إبنه .. وجرى الخير بين أيديهم .. إلا أن حال البلدة بشكل عـام يسير من سىء إلى أسوأ . فمن يسير فى ركب العـمدة وإبنه .. عـليه أن يرضى بما يرمونه به من فتات .. وإلا عـليه أن ينضم إلى العـامه من أهل البلد .. ويقنع بما يجده أن وجد شيئا . فقد يجد طعـاماً ليوم ولا يجد للآخر . وكان وفـيق لايمانع فى تأجير وابورالحرث أو ماكينة المياه لأى فرد من البلدة.. سواء معه أو لم يكن معه المال المطلوب .. وفى هذه الحالة ما عـليه الا أن يوقع عـلى ايصال أمانة .. ويمهله حتى جنى المحصول .. فإن قدر عـلى السداد كان بها.. وأن لم يقدرفلا مانع أن يتحمل للمرة الثانية .. حتى إذا تراكمت عـليه الديون .. عندئذ يتشدد وفـيق فى مطالبته بسداد الدين بحجه إنه من سنين وهو صابر .. وآخرة الصبر أيه ؟. وعـلى أنصار وفيق الباقى . حيث يتولون الضغط عـلى المدين .. حتى يبيع له الأرض.. أو الماشية التى يملكها . وبذلك أصبح وفـيق بمرور السنين .. صاحب الكلمة والمالك للكثير من أراضى البلدة .
ــ 34 ــ
بعـد عـقدين من السنين .. جاوز عـبد الجبار السبعـين من عـمره . وإعـتلت صحته .. وأصبح لايغـادرالفـراش إلا إلى البلكونة ولايغـادرهاالا إلى الفـراش . وقارب وفـيق النصف قرن . كما كبر إخوته الذين كانوا يتعـلمون فى المدينة .. وأنهوا تعـليمهم .. وأصبح من بينهم الضابط والمهندس والمدرس والمحاسب.. وكلهم يعـملون فى البندر . أما أبناء وفـيق .. فلم يوفقوا فى تعـليمهم .. وعـادوا إلى القرية ثلاثتهم .. وأفضل من فيهم حاصل عـلى دبلوم من مدرسه الزراعـه الثانويه .. وأنعـم عـليه والده بلقب .. الباشمهندس . رافعـا من شأنه بين أهل البلدة . ومن حرص العـمدة عـلى حقوق أولاده .. طلب من وفـيق أن يبنى لكل منهم بيتا مستقلا فى الأرض الفضاء بالقرب من السراية . حتى يكون لكل منهم مكان ينزل فيه هو وأسرته عـند قدومه للقرية . وخاصة أن السراية أصبحت تعـج بمن فيها .. وفـيق وأولاده .. الذين تزوجوا ..وأنجبوا . كما أنه كان يفكر فى أن تكون السراية مقرا دائما للعـمودية . والذى يزمع أن يورثها لوفـيق . وخاصة أنه لم يعـد له فيها الا حجرتين .. إحداهما تعـيش فيها زوجته أم هاشم .. التى أصبحت ملازمه للفراش لمرضها وكبر سنها .. والأخرى يعـيش فيها هو ورقـية .
عـلى أنه لم يكن يشغـل باله .. ذلك الحين . إلا أن يولى وفـيق العمودية . وفكر فى أن يستقيل بحجه تقدمه فى السن .. ويوليه وهو حى .
إلا أن المحيطين به رفضوا الفكرة .. وطلبوا منه أن يظل ممسكا بيده بزمام الأمور .. وآهو وفـيق هو الذى يمارس أمورها بالفعـل .. حتى يمهد لنفـسه الأرض تمهيدا جيدا . ويقضى عـلى أمال كل معـارضيه .
إلا أنه وأن كان يميل إلى هذه الفكرة .. الا أنه بدأ يشعـر بشىء من القلق .. وخاصة بعـد وفاة عـمه إبراهيم.. وتقاعـد شيخ الخفر. صحيح أن الجديد .. واحد من الخفر القدامى .. لكنه ليس بحنكه ولا وعى السابق . إلا أن ماكان يدهشه .. ويكاد يذهب عـقله .. أن إبنه لم يكن يبال بكل هذه الأمور .. بل إنه يعـتبر نفسه هو العـمدة بالفعـل . وعـندما قال له :
ـ يا بنى العـمليه فيها إجراءات وشويه حاجات كده .
ـ يابا العـمده .. إطمن وحط فى بطنك شادر بطيخ . هو فيه حد فى البلد النهارده يقدر يفـتح بقه .. ولا حتى يفـتح عـينيه فى وشى ؟.
فهدأت خواطر عـبد الجبار .. بعـض الشىء . وأن كان لم يطمئن كل الإطمئنأن .. ولم يضع فى بطنه إلا بطيخه واحده أوبطيختين .. كما نصحه إبنه وفـيق .
ــ 35 ــ
تعـود أهإلى القرية عـلى غـياب العـمدة .. فـلم يعـد قادرا عـلى حضور أى مناسبة .. فرح كان أو مأتم . وحتى صلاة الجمعة التى كان يحرص عـلى حضورها .. أصبح غـير قادرعـلى حضورها أيضا . وبدأت تسرى اشاعـات فى البلدة .. إنه مات فعـلا .. ودفـن سرا حتى يتم إنتقال العـمودية إلى إبنه .. وبعـدها يتم الإعـلا ن عـن الوفاة . أو أنه مريض فعـلا مرض الموت . ومنها إنه يعـيش فى بيته بالبندر حتى يكون قريبا من الأطباء . ومنها إنه أدخل إحدى المستشفيات . والعـجيب فى الأمر أن أحدا من أهإلى البلدة .. ومنهم القريبون منه .. ومن إبنه . لم يفكر فى أن يقوم بزيارة إلى السراية .. لير الأمر عـلى حقيقته . كل ما كان يحدث.. هو أن أى منهم يلاقى وفـيق عـمدا أو بالصدفة .. يسأله :
ـ إزى العـمدة ؟.
ـ بخير .. والحمد لله .
ـ البركه فيك .. ياعـمدتنا . وينتهى الأمر عـند هذا الحد .
حتى أتى اليوم الذى مات فيه العـمدة فعـلا . وأعـلن ذلك فى البلدة بشكل واضح وصريح .. صباح أحد الأيام . وأن الجنازة ستشيع بعـد صلاة عصر اليوم . وعـلى ذلك حدثت حالة تأهب قـصوى فى البلدة .. واقـيم سرادق كبير عـلى عـجل .. وتم تمهيد الطريق المؤدى إلى مقابر القرية.. ورشه بالماء .. حتى لايتعـفر السادة الحضور. وتوافـد عـلى القرية .. أرتال من السيارات .. لشخصيات مهمة فى البندر والمركز.. وزملاء لأبنه الضابط وإخوته.. وعـمد القـرى المجاورة . وقد أمر وفـيق من إشراقة الشمس .. بذبح الذبائح .. وإطعـام الطعـام لكل غـريب وقريب .. وتقدم العـائلة فى تلقى العـزاء .
ولقد انبهر أبناء القرية بما وفـد اليها من سيارات فارهه .. لم يسبق أن رأوا لها مثيلا من قبل .. كما انبهروا بالمقرىء الشهيرالذى أحيا السهرة .. وتجاوبوا معـه .. وتعـالت آهات الإستحسان منهم .. كأنهم ليسوا فى مأتم . وسهروا ليلتها كما لم يسهروا من قبل . وقد أسرف العـاملون عـلى السرادق فى تقديم المشروبات الساخنة . حتى إذا إنتهى العـزاء .. وانصرف المعـزون .. بقى أهل البلدة جالسين أو واقفين فى تجمعـات .. يتحاكون بما رأوه فى يومهم .. ويتندرون به.. ومنهم من أقسم بصوت عـال إنه لم يرى فى حياته.. مشهدا كهذا .
وقد سر وفـيق .. وأثلج صدره . أن كانت ليلة والده عـلى هذا المستوىالذى جعـل أهل البلدة يتحاكون به .
وتقدم إخوته وأبنائه إلى السراية .. حتى إذا دخلوا حجرة المضيفة .. أغـلق الباب وأمر أحد الخفر بألا يدع أحداً يقترب منه . وبعـد أن ساد الصمت لحظات .. قطعـه وفيق قائلا :
ـ البقية فى حياتكم جميعـا .. وعـموما بيقولوا اللى خلف ماماتش . وأبوكم رحمة الله عـليه .. خلف رجاله .. ورجاله ماليه هدومها . أنا بس عـندى كلمتين عـايز أقولهم لكم بصفتى أخوكم الكبير . أنا عا يزكم من هنا وجاى تعـتبرونى فى مقام أبوكم .. الفرق فى السن بينى وبين أكبر واحد فـيكم .. يزيد عـن الخمستاشر سنه . وأنا باقول فى مقام .. مش أبوكم .
وافقه إخوته .. قولا وإشارة .. وأكد ذلك عـلى الضابط :
ـ طبعـا يا خويا.. دى نظرتنا ليك من زمان .. وطول عـمرنا بنحترمك وبنقدرك .
ـ وعـلى كده .. أنا عـايزمنكم إنكم تبقوا كلكم يد واحده .. معـايا . عـلشان العـمودية ما تطلعـش من العـيله . وكل واحد من ناحيته يسعى معايا .
ـ ما تقلقش من الناحيه دى.. كلنا معـاك قلبا وقالبا أن شاء الله .. وبكل ما نملك .
ـ ومن ناحية البلد هنا ما تقلقوش . البلد كلها ذى الخاتم فى صباعى .. أنا عـايز دوركم بره البلد .
ـ موافقين . هكذا ردوا جميعـا .
ـ أما من ناحية الميراث .. فالحمد لله الخير كتير .. يكفى ويفيض . وشرع ربنا هو اللى هايمشى . أيه رأيكم نجيب شيخ الجامع يحكم بينا . سارع أخوه عـلى قائلا :
ـ لأ يا عـمده .. إحنا مش عـايزين حد يسمع لنا صوت .. والحمد لله إخواتك رجاله وكلهم ثقه فـيك .. واللى إنت ها تعـمله إحنا موافـقين عـليه .. إنت لسه قايل أبونا خلف رجاله . والرجاله ماتختلفش عـلى حاجه لاتودى ولا تجيب .
ـ عـداك العيب يابن أبويا .. وأنا عـلشان كلامك ده ووقفتكم دى رقبتى لكم .
ـ بارك الله فـيك ياوفـيق .
ـ تحبوا نكمل القعـده .. ونتقاسم فى كل حاجه دى الوقت .. ولا نخليها للصبح ؟.
ـ وفـيق .. إكتب الورق اللازم باللى إنت شايفه صح.. وإحنا بكره نمضى لك عـليه .
ـ بس أنا شايف إنكم تراجعـوا أمكم الأول .
ـ أمنا مش ها تقول غـير اللى أنا قـلته لك .
ـ خلا ص .. بكره الصبح إن شاء الله نقعـد أنا وأنت.. ونوزع ونكتب اللى نتفق عـليه.. وننهى الموضوع ..عـلشأن ما يسببش مشاكل .
ـ أن شاء الله ما فيش مشاكل .. وعـلى فكره إحنا ها نكتب الورق لتحديد حق كل واحد بس . لكن كل حاجه هاتبقى تحت إيدك زى ما هيه . إنت عـارف إخواتك .. لاحد منا له فى الزرع ولا فى القلع .. وكل ماتبيع المحصول توزع عـلى كل واحد حقه .
ـ عـداك العـيب ياخويا .
وقاموا جميعا وتعـانقوا وتعـاهدوا عـلى أن يكونوا معـا عـلى الحلوة والمرة .. وقرأوا الفاتحه عـلى ذلك .
ــ 36 ــ
إستمر وفـيق .. يتقبل العـزاء فى والده .. لمدة أسبوع. ويستقبل زواره فى البلكون . بعـد تناوله الفطوريخرج اليها حاملا كوب الشاى فى يده .. ويظل عـلى هذه الحال حتى انتصاف الليل تقريبا .. يلازمه دائما.. رفاق السهر من رجاله . والذين أخذوا فى الظهور بشكل عـلنى .. معـه . فلم يعـد هناك ما يستدعى الاستمرار عـلى نهجهم السابق .. وخاصة أنهم أصبحوا رجال العـمدة. وإن كان شيخ البلد قد إحتفظ بموقعـه فى المجلس.. أوقات تواجده . حيث كان نادر الحضور .. لكبر سنه ومرضه . وأن تقلص دوره الفعـلى . حيث كان رجال وفـيق يمارسون دوره .. وكل أمور القرية كأن وفـيق هـو العـمدة فعـلا . ومن عـجب أن أهـل البلدة .. تقبلوا الوضع وكأنه من الطبيعى.. أن يخلف وفـيق أباه . وأن كان الأمر لم يخل من صوت هنا وهناك .. أو كلمات تصدر من الخصوم القدامى . وبقـيت المعـارضة .. لاتتجاوز كلمات.. سرعان مايتبدد أثرها فى الهواء .. وفى الأذان والعـقول . فـمن ذا الذى يستطيع أن يقف فى وجه وفـيق ورجاله وقد صار الأمر إليهم . وبعـد انتهاء أسبوع العـزاء .. وكان بنهاية الخميس الأول . وفى صباح الجمعـة التإلى .. وقد خرج وفـيق إلى مكانه المعـتاد بعـد الإفطار.. حضر إليه ثلاثة من رجاله .. وبعـد دقائق من الصمت . مال عـليه الجالس بجانبه :
ـ طولة العـمر لك .. عـايزين نفكر بقى فى اللى ها نعـمله .. لغـاية ما يتم الإعـلان عـن فتح باب الترشيح للعـموديه .. ولا .. أيه رأيك .
ـ أقعـدوا مع بعـض أنتم ورتبوا الأمور .. واللى أنتم شايفينه سليم أعـملوه . وكإنى ما أعـرفش حاجه وإنتم اللى بتتصرفوا من نفسكم .
ـ طيب .. بس عـرفنا يعـنى كده .. ولو بالتلميح .. انت عـايز أيه .. إنتخابات ....... . عـاجله وفيق :
ـ لأ.. لأ.. إنتخابات أيه .. وبتاع أيه . أنا عايزها بالتزكيه .. مين ده اللى يترشح قبالى ؟؟. ولا يبقى ند ليه؟؟. وإنت برضه يرضيك أن حد يترشح قبالى ويحط راسه براسى .
ـ عـداك العـيب يا عـمدتنا وتاج راسنا .
ـ ومش عـايز أسمع حاجه كده ولا كده .. تتاخد عـلينا.. وتهد اللى إحنا بنيناه . يعـنى شوية حرص عـلى شوية صبر.. وكده الأمور تمشى مظبوط .
ـ تعـليماتك أوامر.. يا عـمدتنا .
وهم الرجال قـائمين . فـقال لهم وفـيق :
ـ عـلى فـين ياخويا أنت وهو وهو .. أستنوا لما نصلى الجمعـة مع بعـض .
ــ 37 ــ
عـندما فـتح باب الترشيح للعـمودية .. مكث وفـيق حتى آخر يوم فى المهلة المحددة للتقدم . والتى فى خلالها فعـل رجاله .. مالم يكن يخطر عـلى بال أحد فى القرية . فبمجرد أن تسرى إشاعـة أن شخص ما يرغـب فى الترشيح .. وبعـد منتصف ليل سريانها .. يتم إقتحام بيته .. وإقتياده من بين أهله .. إلى مكان لا يعـلمه .. سوى خاطفيه. ويظل محتجزا .. عـدة ليال .. يتذوق خلالها من صنوف المهانة ما لم يكن ليخطر له عـلى بال . ومنهم من تم الإعـتداء عـليه جنسيا .. لكسر شوكته .. وحتى لايرفع رأسه بعـدها . الأمر الذى منع من كانت تساوره نفسه فى التقدم .. من المجازفة . وفى أخر يوم .. وقبل انتهاء المهلة بساعـة واحدة .. وبعـد أن تأكد من عـدم وجود مرشح سواه.. تقدم وفـيق بأوراق ترشيحه . وبعـدها ذهب لزيارة مأمور المركز .
ـ أنا جاى أقـدم فروض الطاعـة والولاء .. لسيادتك . وتشكرى الخاص عـلى حضوركم عـزاء الوالد .
ـ الوالد كان راجل ياوفـيق .. وكان كله نظر. قال ذلك وهو يبتسم ابتسامة ذات معـنى .
ـ وأنا أبنه .. وتلميذه برضه ياسعـادة الباشا .
ـ إن شاء الله تكون خير خلف لخير سلف .
ـ ببركة سعـادتك إن شاء الله .
وسلم عـليه منصرفا وهوينحنى له إنحنائة لها مدلول خاص .. أراد أن يوصله للمأمور .
وما أن وصل إلى البلد .. حتى وجد فى انتظاره فرقة مزيكه .. وحشد من رجاله وأنصاره وأهله .. وأطلقت البنادق من الرجال الذين أحاطوه من كل جانب . وأصر رجاله عـلى أن يطوفوا به البلدة راكبا حصانا أبيض أعـدوه له . ولما طلب منهم وفـيق تأجيل ذلك لحين الإعـلان رسميا عـن شغـله للمنصب . أصروا أن يتم ذلك اليوم وخاصة أنه يعـتبرفائزا بالتزكية .. فـلم الانتظار؟. وكان لهم ما أرادوا .
وعـندما عـاد إلى السراية .. وجد فى الخلاء حولها.. عـده عـجول تم نحرها حال وصوله .. وتوزيع لحومها عـلى الناس .. كما اعـدت موائد الطعـام أمام السراية . وعـندما دخل عـلى زوجته .. التى كانت ترتدى الأسود حزنا عـلى الراحل .. والفرحة تملأ وجهها .. ولم تتمالك من أن تطلق زغـرودة تردد صداها فى أركان السراية .
عـلت الابتسامة وجه زوجها .. وأغـلق عـليهما الباب.
ــ 38 ــ
لم يشعـروفـيق بجديد.. بعـد توليه العـمودية بشكل رسمى .. اللهم إلا ظهور رجاله بجانبه كمسؤلين .. وأصحاب رأى .. وأمر ونهى . فلم تعـد كل الأمور تعـرض عـليه.. إنما كبارها فقط . فـما الداعى أن يشغـل نفـسه بكل صغـيرة وكبيرة. وما فائدة من حوله أن فعـل ذلك .. وعـلى ذلك ترك لرجاله الحبل عـلى الغـارب .. فـفعـل كل منهم ما يريد لأجل فرض سطوته وهيمنته فى المجال المنوط به . ولهذا بعـدما كان هناك وفـيق واحد أيام عـبد الجبار .. أصبح الأن هناك أكثر من وفـيق .. مع وجود فارق واحد ..أن أحدا منهم ليس ابن العـمدة .. وإنما ذراعـه الطولى . وكل منهم له رجاله ومنفذوا أوامره ونواهيه . لكن الأمر المدهش .. أنه لم يحدث بينهم صراع عـلى من يكون الأكثر سطوة أو الأكثر نفوذا . ربما خشية من وفـيق .. أو ربما لأن كل منهم يلتزم بالخط الذى رسمه له .. ويحرص تمام الحرص عـلى عـدم تجاوزه .. خشية من العـمدة . ولهذا كانت الأمور مستقرة لهم . بالإضافة إلى أن الناس إعـتادوا منهم عـلى ذلك من زمن .. فلم يكن هناك الجديد . وإستمرت الحياة كما أراد لها وفـيق أن تستمر . إلا أن هناك أمرا جد .. ألا وهو الجيل الجديد من الشباب .. الذى ولد مع بداية تولى والده للامور.. منذ ربع قرن تقريبا . شبابا يافعـا قويا .. متعـلما . بداخلهم تمرد عـلى موروثات آبائهم .. فماذا يفعـل معـهم ؟. فى البداية حاول إحتوائهم بالرياضة .. فنظم لهم دورات فى كرة القدم .. بين فرق أطلق عـليها أسماء كالأسد المرعـب والفهد.. وهكذا . وخصص لها جوائز .. يقوم بتوزيعـها بنفسه عـلى الفريق الفائز. ومع ذلك وجد صعـوبة شديدة فى الهيمنة عـليهم . فإجتمع بوفود منهم فى محاولتة لإستمالتهم وإستمع إلى مطالبهم .. التى كانت تتركز فى إنشاء مدارس بالبلدة بدلا من سفرهم إلى البلاد المحيطة أو البندر.. فوافقهم عـلى ذلك بل وخصص قطعـة أرض كبيرة.. من التى كان يضع يده عـليها عـلى أن تكون البداية بمدرسه ابتدائى وأخرى إعـدادى . وسعى جادا مع أبناء البلدة حتى تم بنائهما .
وأخذت عـجلة الأيام تدور .. دورانها الروتينى .. وما يصبح الناس فيه يمسون فيه.. وكل يوم تزداد المعـيشة غلاءا عن الذى قبله .. وكل ملهى فى البحث عـن عـمل يضمن له لقمة العـيش .. وأن وجد العـمل يحرص عـلى أن يستمر فيه حتى يضمن لقمة العـيش .. له ولأبنائه . وعـلى ذلك هجر البلدة كثير من أبنائها سعـيا وراء الرزق فى البلاد المجاورة .. وما يعودون به من أموال يحرصون عـليها أشد الحرص .. وعـلى ذلك لايكون أمامهم إلا اللجوء إلى وفـيق ورجاله .. فيتقدمو اليهم بالهدايا .. والعـطايا .. حتى يضمنوا عـدم التعـرض لهم .
ــ 39 ــ
كبر أبناء وفـيق .. وكثر أولادهم حتى ضاقت بهم السراية .. فـلم يكن أمامه إلا أن يبنى لكل واحد منهم بيتا مستقلا . وأصبح يعـيش هو وزوجته وحدهما فى السراية . وعـلى ذلك إستقر بالحجرة التى تجاور المضيفة . وأصبح الدور الثانى الذى خلا من سكانه .. مرتعا للخفافيش والفئرأن . وبمرور الأيام أصبح الجميع يخاف الصعـود اليه .. زعـما إنه إصبح مسكونا بالعـفاريت . وقل إهتمام وفـيق بالسراية .. فلم يعـد يقوم بأى صيانة للمبنى . فتهاوى معـظم الطلاء من الجدرأن .. وتهالكت الأبواب والشبابيك .. وتحطم زجاجها .. وأصبح من الصعـب غـلقها . وفى الشتاء .. تتلاعـب الرياح بها محدثة من الأصوات .. ما كان يبث الرعـب فى نفوس ساكنها . حتى أن الخفر والعـاملين فى خدمة العـمدة .. لم يكن بمقدور أشجع رجل فيهم .. أن يدخلها ليلا .. أبعـد من الثلاث حجرات الأولى .. التى يعـيش فيها وفـيق . وخاصة إنها كانت دائما مضائة ليلا . وحدث أن أرادت زوجته الذهاب إلى دورة المياه ليلا.. لمغـص مفاجىء الم بها .. وكانت بآخر الدور الأرضى .. وحملت معـها فانوس ينير لها الطريق .. ويبدد خوفها . ومعـها إحدى الشغـالات تحمل فانوسا آخر . وما أن رأت قـطة سوداء تعـدو من أمامهن .. صاعـدة إلى الدور الأعـلى .. حتى صرخت .. وحاولت الجرى إلى حجرتها .. فإلتوى قدها أسفلها ووقعـت أرضا .. فعـلا صراخها هى وخادمتها .. فأسرع اليها العـمدة وكل من كان معه لحظتها .. وحملوها إلى فراشها . وحضر اليها المجبراتى .. ووضع لها جبيرة عـلى قدمها . وعـندما إختلت بالعـمدة ليلتها .. قالت له فى لهجة آمره لم يسمعـها منها من قبل :
ـ أنا ما عـدش لى عـيشه فى الخرابه دى .. يا إما تبنى لنا بيت صغـير عـلى قدنا .. وإلا ها روح أعـيش مع أى واحد من ولادى .. وإنت حر فى نفسك .
صمت وفـيق لحظات متفكرا :
ـ صحيح أيه اللى مخلينا عـايشين فى الخرابه دى ؟. ثم صمت فجأه ولم يكمل حديثه .
" بس هاتبنى لمين ياوفـيق من بعـدك .. ده كل واحد وله داره . ده أنا ناسى البنات خالص .. دول بنتين .. فيها أيه إما أبنى لهم بيت هما كمأن .. وآهو نعـيش فـيه الباقى من عـمرنا .. وبعدها يبقى لهم دار تلمهم .. لو واحده منهم خدت عـلى خاطرها من جوزها ولا حاجه ."
وعـلى ذلك فى صباح اليوم التإلى .. أعـطى تعـليماته لرجاله .. لبناية الدار فى الأرض الخلاء أمام السراية .. وبحذاء دور أبنائه .
ــ 40 ــ
إنتقل وفـيق وزوجته إلى الدارالجديدة .. وخلت السراية من سكانها . اصبحت .. مبنى عـاليا خاويا .. أثرا .. شاهدا عـلى أيام قـد ولت بحلوها ومرها . ونظرا لتقدمه فى السن .. أصبح غـير قادر عـلى الخروج إلى الناس بشكل دائم .. فإزدادت سطوة رجاله من حوله .. وقويت شوكتهم . وبدأت الخلافات تدب بينهم . فى محاولة من كل منهم .. تقديم نفـسه كخليفة لوفـيق . فلم يكن هناك مايدل عـلى رغـبتة فى تقـديم أحد من أبنائه .. ولا رغـبة لدى أى منهم فى ذلك . وعـلى ذلك أصبح كل من يرى فى نفسه .. من رجاله.. استحقاقه للمنصب .. يعـمل عـلى كسب الأنصار والؤيدين له . حتى ظهرت النزاعـات عـلنا .. وأصبح الناس يتندرون بهم فـمن قـائل :
ـ ما إختلفوش وهما بيسرقـوا .. وإختلفوا وهما بيتقاسوا السرقه .
ومن قائل :
ـ وعـلى الباغـى تدور الدوائر .
وعـندما أدرك وفـيق أن الأمور تكاد تفلت من يده .. عـلى آخر أيامه .. جمع رجاله فى حجرته وأغـلق عـليهم الباب وقال لهم :
ـ أنا الوقـت فى آخر أيامى .. ومش عـايز الناس تقول أن وفـيق كان شيخ منصر .. وبعـد ما مات إختلف أفـراد العـصابه من بعـده .. إنتم كنتم رجالتى وإيدى ورجلى .. ومش عـايز أى خلافات وصراعـات بينكم . أى واحد منكم يمسك من بعـدى .. الباقى رجالته وإيده ورجله زى ما كنتم معـايا بالظبط . ويكون بينكم عـهد عـلى كده .. واللى يخرج عـليه .. الباقى يكونوا يد واحدة عـليه . والوقت ده .. قبل ماتخرجوا من عـندى .. يكون بينكم إتفاق.. عـلى اللى ها يمسك من بعـدى . إنتم آهو عـشرة رجال وأنا بصوتى اللى ها رجح مين اللى ها يمسك .. أيه قولكم بقى ؟ .
ـ عـداك العـيب يا عـمده .
ـ والله إنت كده حليت الإشكال .
ـ ياريتك عـملت كده من زمأن .. كنت وفـرت عـلينا الخلافات اللى حصلت دى .. وخلت الناس تتلسن عـلينا .
ـ دول ماكانوش ها يتلسنوا بس .. دول كانوا هايكلوكم .. لو خلافاتكم زادت عـن كده .عـموما خلاص..مين فـيكم اللى هايرشح نفـسه ؟.
ـ إنت اللى تختار يا عـمده .
ـ لأ .. أنا عـايز إتنين ولا تلاته يرشحوا نفـسهم .. ونختار واحد منهم .
ـ بلاش كده ياعـمده .. ده هايخلق خلافات وحزازات فى النفـوس عـمرها ما ها تتنسى .
ـ طيب نقـرا الفاتحه عـلى أن اللى أختاره ما يحصلش عـليه خلاف .
ـ ومن غـير فاتحه .. كلامك سيف عـلى رقابنا .
وأعـلن إختياره لأحدهم .. ولشد ما كانت دهشته .. عـندما وجد إرتياح الجميع لهذا الإختيار .. وكأنه كان هناك إتفاق بينهم عـليه .
ـ طيب ومين بعـده ياعـمده ؟.
ـ سيبوا دى .. جايز الظروف تتغـير.. وتفرض إنتخابات .. ورأى الناس هو اللى ها يحكم فى الحاله دى .
ـ إنتخابات أيه .. ورأى ناس أيه . وأن حصل إنتخابات .. ما إحنا عـارفين ها نعـمل أيه . وإمتى الناس كان لها رأى.
ـ برضه .. سيبوها للزمن .
وإنفـض الإجتماع عـلى ما إتفـقوا عـليه .
إنتهت
صدر حديثاً :
ما قالته نظرتها الأولي
شعر
صابر معوض
لن أكون سبية
شعر
راندا الجندى
أين نحن وإلى أين نتجه ؟
مقالات
صبرى قنديل
إلى هذا الحد ..؟! ط2
قصص
محمد خيرت حماد
أحلام على الطريق ط2
قصص
محمد خيرت حماد
كبر داء
شعر عامية
د. عصام زكى الغنام
هانت الأفراح
شعر عامية
سلطان البهوتي
لا عليكِ
شعر فصحى
عبد الناصر الجوهرى
حمام أم الرشراش
قصص
فؤاد حجازي
المهرج لا يستطيع الضحك
شعر
عبد الناصر الجوهري
أنا رغم الجراح عاشق
شعر
سلطان البهوتي
سأغني للفجر القادم
شعر
محمد يوسف بلال
عليه العوض
رواية
السعيد أحمد نجم
لمن تهدرين شجونى
شعر
عبد الناصر الجوهرى
جمرات خابية
مذكرات
أحمد ماضى
لست أنا ، لكنه اسمي
رواية
أحمد ماضى
دموع النوارس
رواية
أحمد ماضى
هنا القاهرة
شعر
السعيد قنديل
الممر ط2
قصص
احمد ماضى
هويت بحرك
شعر
جابر على شطا
قدر ومكتوب
قصص
محمد خيرت حماد
الخوف
قصص
أحمد ماضى
الكلام طالع بالغنا
شعر
سلطان البهوتي
المشى للخلف
قصص
فؤاد حجازي
أراك كظلى
شعر
سلطان البهوتى
مكلوم هده الشوق
شعر
عبد الناصر الجوهري
للنار أغنية أخيرة
شعر
عاطف الجندي
من القلب يا شجن
شعر
جمعة محمد سنجاب
نداء خرطومو
قصص للطلائع
فؤاد حجازي
اشتباك
شعر
جيهان سلام
السراية
رواية
محمد خيرت حماد
رقم الإيداع بدار الكتب
8098 / 2008
ترقيم دولى
977-374-374-8
دار الإسلام للطباعة والنشر
2266220 / 050
0122614363
8098 / 2008
ترقيم دولى
977-374-374-8
دار الإسلام للطباعة والنشر
2266220 / 050
0122614363